Monday 23rd june,2003 11225العدد الأثنين 23 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

العرب والكذب العرب والكذب
د. عبد الرحمن الحبيب

قالت العرب: «أجمل الشعر أكذبه»، بمعنى الأوسع خيالا.. وفي المجتمعات الغربية قد يطلقون على الكذاب «واسع الخيال» كشتيمة مؤدبة لانسان فاقد المصداقية.. وفي الوقت الذي تتبارى فيه صحف العالم على جودة الانتاج الخبري من مصداقية وأسبقية.. يغدو في مجتمعاتنا العربية مصطلح «كلام جرايد» مرادفاً للكذب.
واقعنا واعلامنا العربي ينضح بالكذب.. نحن الذين انتجنا عبقرية احمد سعيد وظرف الصحَّاف وآخرين كثر.. يكذبون اشد انوع الكذب واكثره وضوحاً ويصدقهم شطر واسع من الجمهور العربي او يصرُّ على الآخرين ان يصدقونهم مع تكذيب الأخبار الاخرى لمجرد أنها لا ترضي عواطفهم.. فهل تصح آراء هتلر النازية عند الافتقار للإعلام الحر النزيه: «الجماهير تصدق الكذبة الكبيرة بسهولة وتكتشف الاكذوبة الصغيرة بسهولة أيضاً. وهناك قاعدة لا معنى فيها لدى الشعوب وهي ان الكذبة الكبيرة لابد ان تتضمن مقداراً من الصدق.. الجماهير لا تستطيع ان تتخيل إمكانية ان يكون الزيف بهذا الحجم والاستهانة بالحقيقة بهذا المقدار.. وحين تسطع شمس الحقيقة يشكك الجمهور في الحقيقة نفسها ويظل الناس يقبلون على الأقل جزءاً من الاكذوبة».
يذكر د. مأمون فندي ان اكبر ملوث في مصر فاز بجائزة «رجل البيئة» مرتين في العام، وبدلاً من تقصي الحقيقة، وقع الصحفيين المصريين ضحية الدعاية.. ويكتب في سياق آخر: «كيف يصدقنا الغرب عندما نتحدث عن مقتل فلسطينيين في غزة والضفة في الوقت الذي ننكر فيه جرائمنا المتمثلة في مقابر صدام الجماعية». وفي ذلك يقول خالد القشطيني: «لم يعد الأجانب يثقون في كلامنا.. حدث لي أن تناولت العشاء مع المستعرب هوتشكن بعد حرب 5 يونية.. ورويت شيئاً من تجاوزات اسرائيل.. سمعت احد الضيوف يسأل بهمس عن مدى صحة روايتي وأجابه الضيف هامساً أن نصف ما قلته لا يعتمد عليه.. قال وأين قرأته؟ قلت في صحيفة عربية.. لاحظت هوتشكن يميل برأسه نحو زميله ويهمس: ارفع النسبة الى ثمانين في المائة» ويواصل القشطيني: «ولم تعد شعوبنا تصدق حكوماتنا.. أصاب مرض وبائي الأغنام العراقية قبل سنوات. بادرت الحكومة الى وضع أحواض من مادة معقمة ودعت اصحاب الغنم الى المجيء بحيواناتهم لتغطيسها.. ولم يستجيبوا للنداء.. قالوا: هذه حيلة لإحصاء الأغنام لفرض ضريبة عليها».
يذكر المستعرب الياباني نوبواكي نوتوهارا: «خلال اربعين سنة من حياتي قابلت عدداً كبيراً من الكتَّاب العرب وعدداً اقل من المفكرين العرب.. ولي اصدقاء حميمون بين اولئك جميعاً. ومن هذه التجربة اكتشفت ان الكتَّاب النجوم يتكلمون كأنهم سلطة. اذكر هنا مثالا غريباً على اليابانيين على الأقل، المهرجانات الشعرية الكثيفة التي تقام في البلدان العربية. يتوافد الشعراء.. وينزلون في افضل الفنادق ويأكلون افخر الأطعمة.. ثم يتقاضون مكافأة.. وتلك المهرجانات كلها تحت رعاية السلطة وتمويل منها. هناك ما لا يفهم أبداً في هذه الظاهرة. إن عقولنا في اليابان عاجزة عن فهم معنى ان يمدح الشاعر أو الكاتب السلطة أو أحد أفراد السلطة. هذا ليس موجوداً عندنا على الاطلاق.. ربما نفهم أنه أعجب بأحدهم فمدحه ولكن ان يمدح قادة - من عدة أقطار - يختلفون في أساليب قياداتهم الى حد التناقض..!».
جمهور غالبيته لا يرى في الكذب نقيصة بل «فهلوة وشطارة» .. وربما يرى في الصدق سذاجة وحمقاً!! الحقيقة ليست مهمة بل الخطابة المتلألئة.. ما يقوله الصحاف وأشباهه المنتشرون في كل جزء من عالمنا العربي. وربما في ذلك بُعد لغوي جمالي لمكانة اللغة والخطابة في العقل والمجتمع العربي ذو نمط الاقتصاد الريعي الثابت غير المعتمد على الاقتصاد الانتاجي المتحرك، وبالتالي سمو هذا الخطاب فوق الوقائع، فشاعر القبيلة القديم حين يمجد قبيلته واخلاقياتها لا ينطلق من حقائق قدر انطلاقه من لعبة لغوية فخمة بديعة تُعلي شأن قبيلته، فالصراع بين القبائل لا تجديد فيه على أرض الواقع، بل التجديد ينبع من اللغة والخيال الجمالي.. لأن الواقع الصحراوي غير مسيطر عليه وهو كما هو نسبياً دون تغيير جوهري في كل بقاع الأرض العربية وأزمنتها، وأخلاقيات القبائل كما هي دون تبدل، فساحة التنافس ليست الواقع الثابت زماناً ومكاناً إنما المتخيل المتنوع والمتجدد.
وإذا بحثنا عن التنشئة الاجتماعية، فإن الطفل يتعلم الصدق والكذب في البيت ثم في المدرسة. ويرى المختصون انه من الصعب وصم الطفل بالكذب، اذا لم يدرك الفرق بين الواقع والخيال. ولأسباب عديدة ليس هنا مجالها يحلو لطفل ما قبل المدرسة ابتداع القصص الخيالية او قد تلتبس عليه الوقائع ولا تسعفه ذاكرته على سردها، فيحذف ويضيف بما يتناسب وقدراته الإدراكية. وينبغي على الآباء والمربين التعامل مع نماذج الكذب بالحوار مع الصغار وتعريفهم الفرق بين الصدق والكذب واهمية الصدق وخطورة الكذب مع وضع الطرق البديلة عن الكذب.. ان العقوبة العنيفة على الخطأ أو حتى العقوبة العادية والتوبيخ على كل خطأ يرتكبه الطفل يضطره للكذب هروباً من العقاب.. بينما إثابة الطفل على صدقه ستكون حافزاً له على الصدق، وإشعاره بثقتنا واحترامنا وتقديرنا له. وأظن أن العقاب القاسي عندما يخطىء الطفل، وعدم المكافأة «إلغاء العقوبة أو على الاقل تخفيفها» عند اعتراف الطفل بخطئه من تلقاء نفسه يعدَّان أكبر عاملين مشجعين على الكذب. وأتذكر مقالة للكاتب عبد الله باجبير منها: أن أباً سأل ابنه الصغير أمام جدّته «أم الأب» هل تحبها، فقال الطفل ببساطة لا، فصفعه الأب، ثم أعاد السؤال عليه، فقال الطفل بعناد: لا، فصفعه مرة اخرى، وأعاد السؤال عليه فكانت الاجابة هذه المرة بنعم أحبها!! وهو حب يشبه حب الشعوب العربية لأنظمتها.قد نتمكن من تربية الاطفال على الصدق، لكن ماذا نصنع لأفراد ومؤسسات وأنظمة تكذب ثم تكذب حتى تصدق كذبتها، وهي ترى ما تريد وتغمض عما لا تريد، بل ترى وقائع لم تحدث أصلاً؟.. قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «أفْرَى الفِرَى أن يُري الرجل عينيه ما لم تريا» رواه البخاري.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved