Monday 23rd june,2003 11225العدد الأثنين 23 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

كذب القويّ محترم كذب القويّ محترم
د. عبدالله الصالح العثيمين

الكذب صفة من الصفات الممقوتة، ورذيلة من الرذائل المكروهة. ذمَّه الله جلَّ جلاله وذمَّ من اتَّصف به في كتابه العزيز، وذلك في آيات كريمة كثيرة جداً. ومن أصدق من الله قيلا؟ وذمَّه سيِّد الأولين والآخرين نبينا محمد، صلى الله عليه وسلَّم، في الحديث الشريف، وذكر وهو الصادق المصدوق أنه من علامات المنافقين الذين أكَّد الله أنهم في الدرك الأسفل من النار، وأن الرجل ليكذب ويكذب حتى يبعث عند الله كذَّابا.
وكفى بما ورد عن سوء الكذب في محكم التنزيل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، دليلاً مقنعا. وكفى بما جاء عن سوئه في صحيح الحديث الشريف، الذي هو الأصل الثاني من أصول الشرع المطهَّر ، حكماً مرضيا.
وكل أصحاب العقول السويَّة، وأرباب الضمائر الحيَّة، يتفقون في نظرتهم إلى الكذب على أنه صفة مذمومة، وسمة ممقوتة.
لم يختلف في هذه النظرة الآخرون عن الأولين، ولا الغربيون عن الشرقيين.
ولم تكتف المجتمعات باحتقارها للكذَّابين، واعتبارهم من الخارجين على مثلها الكريمة، وقيمها المرعيَّة؛ بل وقفت في وجوههم بمختلف الوسائل، وحاسبتهم على كذبهم أشدَّ الحساب متى استطاعت إلى ذلك سبيلا. ورفع الدعاوى على من كذبوا عليها من القادة بالذات، وبالتالي إجبارهم على التخلِّي عن القيادة، شاهد على ذلك.
على أن هناك استعمالاً لكلمة الكذب استعمالاً يقصد به المبالغة في الوصف أملاً في تحقيق لمسة جمالية. ومن هنا جاءت عبارة: «أعذب الشعر أكذبه» ومما ورد في هذا المجال ما قاله أحد زعماء قبيلة عتيبة، تركي بن حميد، في وصفه لبعيره:


يا راكب الليِّ ما يداني الصغيرِ
هميلعٍ من نقوة الهجن سرساح
أمّه نعامه واضربوها بعيرِ
جا مغلطانيٍّ على خفّ وجْناح
حبال كوره من سلوك الحريرِ
وسفايفه مثل الغرابين طفَّاح

فأجابه الزعيم القحطاني، محمد بن هادي، قائلاً:


يا تركي بن حميد وش ذا البعيرِ؟
ما تجلبونه كان تبغون الارباح؟
لى عاد له خفّ وجناحٍ يطير
أنا أذكر الله كيف راعيه ماطاح!
وانا لقيت الكذبْ في كل اميرِ
ويا حلو كذبْ مخضبّه علط الارماح

ولكلٍ من هذين الزعيمين ما له من شعر جميل ينمّ عن صفات البطولة ويعبرٍّ عنها. وما أحلى شعرهما الرفيع المستوى، وبخاصة أنهما ممن يشهد لهم بمواقف محمودة.
على أن واقع الأمة العربية الأليم يحرمني الاسترسال في التمتُّع بما أُثر من أحادِيث بطولاتها يوم كانت الكرامة في طليعة قيمها، والشهامة في مقدَّمة مثلها. فأنتقل إلى الحديث عما لا يمكن الهروب منه، وهو هذا الواقع الذي بلغ في سوئه وتدنِّيه درجة تعجز الكلمات عن وصفها. لقد فقدت هذه الأمة الشيء الكثير من قوَّتها المادية في العقود الأخيرة. وفقدان القوة المادية أمر مثبِّط للآمال، ومعيق للتصدِّي، ناهيك عن التقدُّم. لكن هذا، مع خطورته وفداحته، أقلّ خطورة وفداحة من فقدان أمور معنوية في طليعتها مشاعر الكرامة وصلابة الإرادة.
فمما يلفت النظر أنه كلما زادت خطوات أعدائها امتهاناً لها وبطشاً بها زادت هي رضوخاً لإملاءاتهم وخضوعاً لتوجيهاتهم واستسلاماً لارادتهم. وحدوث هذا ليس بغريب، بل هو المتوقع جدا. ذلك أن الثقة بين أكثر قياداتها وشعوبها تكاد تكون معدومة؛ ناهيك عن الثقة بين دولها. ولانعدام هذه الثقة أسباب شتَّى من أهمِّها إن لم يكن أهمَّها أن تلك القيادات بينها وبين المصداقية مسافات ومسافات، وبعضها بينها وبين الجور والتلاعب بمقدرات شعوبها أعمق ما يكون من علاقات حميمة. وما دام هذا هو الواقع فإنه ليس غريباً أن تتدهور أمور كثيرة. ومن هذه الأمور الإعلام، الذي يفترض أن يكون سلاحاً مهمَّاً في مواجهة التحدَّيات التي تتعرَّض لها الأمة، وعاملاً إيجابياً في توجيه جماهيرها توجيهاً واعيا.
وفي ظلِّ الانهزام الذاتي لم يكن بدّ لبعض أجهزة الإعلام العربية، مرئية ومسموعة ومكتوبة، من تلقُّف ما تقوله أجهزة إعلام أعداء الأمة من مستعمرين ومتجبِّرين. وكنت قد كتبت مقالة في هذه الصحيفة بعنوان «الانزلاق الإعلامي» أشرت فيها إلى استعمال هذه الأجهزة ما تستعمله أجهزة إعلام أولئك الأعداء من ألفاظ وعبارات في حديثها عن أمور ذات أهميّة قصوى. ثم كتبت مقالة أخرى عما وقعت فيه تلك الأجهزة، تقليداً أعمى لإعلام أعداء الأمة أو استخفاف بمشاعر الرأي العام فيها. وكان مما ورد في تلك المقالة الإشارة إلى ما ارتكبه إعلاميون عرب من جناية في حق عالمتين عراقيتين؛ وذلك بتسميتهما بما سمَّاهما به إعلام المحتلين لأرض الرافدين من تسمية ممقوتة تنمُّ عن حقد المحتل وغباء من سار في ركب إعلامه أو تغابيه.
ومع وضوح الأمور حول ما خطَّطه أعداء أمتنا العربية، وشرعوا في تنفيذه، بدءاً بالعراق، فإن مواقف أولئك الإعلاميين من العرب تكرَّرت استمراء لتوجيهات أولئك الأعداء أو توجيهاتهم، وتلذُّذاً بتعذيب ضمائر المخلصين ومشاعرهم.
ومن ذلك أنهم ظلُّوا أياماً وأياماً يتندرون بوزير إعلام حكومة العراق، التي أطاح بها المحتلُّون، محمد الصحَّاف، ويتحدَّثون عنه وكأنه لا يوجد في الدنيا كذَّاب مثله. ولا أظن أنه قد فاتهم أن وزير الإعلام؛ وبخاصة في ظلَّ حرب عدوانية تُشن على بلاده، كان يستقي ما يقوله من معلومات عن مجرى تلك الحرب من القيادة التي يخضع لأوامرها المتصدُّون لعدوان أعدائهم.
وقد تظهر الأيام أن ما وعد به الصحَّاف من أمور تبعث على التفاؤل كان مخططاً، لكنه لم يُنفَّذ لأسباب ظهر بعضها وما خفي منها كان أعظم.
على أن المتتبّع لمجريات حرب العدوان على العراق من بدايتها إلى نهايتها يجد أن مصداقية الإعلام العراقي في أيامها الأولى بخاصة كانت أكثر من مصداقية إعلام المعتدين الأمريكيين والبريطانيين، وأن هؤلاء المعتدين قاموا بكل ما يملكون من وسائل لإخفاء الحقائق. بل إنهم قاموا، أيضاً، بكل ما لديهم من أسلحة الجبروت بقصف أجهزة الإعلام غير المتعاونة معهم في ترويج كذبهم وإسكات أصواتها.
وفي الوقت الذي استمر فيه بعض الإعلاميين العرب يتندَّورن على الصحَّاف جاعلين من أقواله رمزاً للكذب تغافلوا عن ذكر اكاذيب المعتدين الواضحة حول مجريات العمليات العسكرية. والأدهى والأمرّ أنه بينما قامت جهات وشخصيات مهمَّة في كلٍ من بريطانيا وأمريكا تطالب بالتحقيق فيما ارتكبته قيادتا هاتين الدولتين المعتديتين من كذب وتزوير مخابراتي عن أسلحة الدمار الشامل في العراق تبريراً لارتكاب عدوانهما ضد هذا البلد أُصيب هؤلاء الإعلاميون بالخرس في أفواههم والشلل في أناملهم عن ذكر ذلك الكذب والتزوير. بل بلغ انسياق البعض في تبعيته لإعلام الأعداء حداً يصف أي مقاومة للاحتلال يقوم بها أفراد عراقيون بأنها من فعل بعثيين من بقايا أتباع حاكم العراق الذي أطاح به الغزاة المحتلّون، صدَّام حسين. والمذبحة التي ارتكبها جيش الاحتلال الأمريكي، قبل أيام، وراح ضحيتها حوالي مائة وثلاثين عراقياً قال عنها بعض هؤلاء الإعلاميين الإتباع: إن القتلى كانوا من البعثيين، جرياً وراء الاعلام المعادي.
ولم يكترثوا بمشاعر العراقيين الطامحين إلى الحريَّة من المحتل، ولا مشاعر القراء الذين في أذهانهم سؤال بدهيّ؛ وهو كيف تحقَّق هؤلاء من أن جميع القتلى من البعثيين؟
وكال ما سبق يدلّ مع الأسف الشديد على أن الإعلام العربي المنزلق وراء إعلام أعداء الأمة العربية نتيجة الانهزام الذاتي لا يملك الجرأة وربما لا يريد أن يملكها على وصف الكذَّآب القويّ المعتدي بالكذب، وإنما يطول لسانه، ويتشجَّع قلمه، فقط إذا كان حديثه عن طرف ضعيف، قُدِّر أن يكون من الأمة التي ينتمي إليها. وأمام كل ذلك أليس صحيحاً أن يقال: إن كذب القويّ محترم؟.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved