نستقبل العام الدراسي الجديد بأسئلة نطرحها على أنفسنا فتساعدنا على حسن التصرف مع أولادنا لكي يفيدوا من سنتهم الدراسية الطالعة إلى أبعد حد ممكن والسؤال الأول هو التالي: هل ثمة أولاد يحذقون قواعد الاملاء والاعراب، لا بطريقة فطرية لان هذه القواعد هي أمور تواضع عليها الناس، بل بسهولة تفوق السهولة التي يتعلم بها غيرهم مثل هذه القواعد؟
وما هو مرد السهولة لدى بعضهم والصعوبة لدى بعضهم الآخر؟
لقد كثرت النظريات وتنوعت وتباينت، بيد أن الاختبار الطويل أظهر أن الوقوف على قواعد الاملاء هو نتيجة البصر حينا ونتيجة السمع حينا آخر.
وقد أجرى الاختصاصيون اختبارات وتجارب عديدة في هذا الباب يجدر بنا أن نشير اليها ولو لماما.
العميان والصم البكم
اذا قابلنا املاء مجموعتين من التلامذة تعلمته المجموعة الاولى عن طريق البصر والمجموعة الثانية عن طريق السمع وضح لنا بنوع قاطع أن المجموعة الاولى تتفوق على الثانية تفوقا ملحوظا فنسبة أخطائها تبلغ 35 بالمئة بينما تبلغ نسبة أخطاء الثانية من 50 إلى 55 بالمائة.
وشاهدنا على ذلك هم العميان الذين نعرف أنهم، في الاعم الاغلب أشد ذكاء وانفتاحا من الصم البكم، فالعميان يرتكبون من الاغلاط في قواعد الاملاء أكثر مما يرتكبه الصم البكم بكثير.
هل يعني ذلك أن «الاقوياء بالاملاء» هم أصحاب ذاكرة بصرية ممتازة؟
نعم، شرط أن نضيف الملاحظة الثانية وهي أن الذاكرة البصرية لا تكفي وحدها لتعليل كل شيء.
ضعيف في الرسم قوي في الاملاء
من الضروري اللازم أن نعرف كيف نستخدم هذه الذاكرة البصرية أحسن استخدام، لاسيما أنها تتماشى مع كثرة المطالعة التي توفر للتلميذ كمية هائلة من المفردات والتعابير، فيقف على معانيها بينما يقف، في الان نفسه على طريقة كتابتها، أي على الاملاء، والمطالعة الرصينة هي غير المطالعة السريعة التي يكتفي منها التلميذ بمعرفة نهاية القصة.
انها التوقف لدى المفردات والجمل والعبارات الطريفة وترسيخها في الذهن من حيث المعاني والاستعمال ومن حيث القواعد الصرفية والنحوية في وقت واحد.
وقد دل الاختبار أن التلميذ الذي يقرأ كثيراً، حتى ولو لم يكن قادرا بعد على تفهم قواعد اللغة تفهما منطقيا، يتوصل إلى تطبيق هذه القواعد عمليا وينتهي به الامر، عندما يتقدم في السن إلى تعليل القواعد بسرعة مفرطة وسهولة كبيرة.
لذلك يمكن أن يكون الولد ضعيفا في قواعد الاملاء وقوياً في الرسم، والعكس صحيح أيضا.
ففي كلا الحالين تكون ذاكرته البصرية قوية الا انه استخدمها استخداما مختلفا فجنى من ذلك ثمارا متنوعة بل متناقضة بعض الاحيان.
البصريون والسمعيون و«المحركون»
لننتقل الان إلى التحدث عن ملكة الحساب الذهني والميل الى الرياضيات.
يكفى أحيانا أن نمرن الولد منذ حداثة سنة على انماء ملكة الحاسب الذهني، وشاهدنا علي ذلك هو بعض الافراد الذين قيل فيهم انهم «معجزة في الحساب الذهني» وكان عمرهم لا يتجاوز الثلاث سنوات!
تستند هذه الملكة أساسا إلى الذاكرة، فلكى ينتهي المرء إلى حل قضية حسابية بسرعة يجب أن يتذكر معطيات القضية ويحتفظ في ذاكرته بكل عملية فرعية، ولا يخلط نتيجتها بنتيجة عملية فرعية أخرى أو بمعطيات المسألة الحسابية الى أن يبلغ النتيجة النهائية، دون أي خلط أو تحوير.
وعليه فان الحساب الذهني يتطلب ذاكرة قوية تحتفظ بجميع المعطيات والارقام واضحة مرتبة حسب سياقها المنطقي.
وكان علماء التربية يظنون أن هذه الذاكرة الضرورية للحساب الذهني هي ذاكرة بصرية فقط تتيح لصاحبها أن يضرب ويطرح ويجمع ويقسم عن ظهر القلب كما لو كانت أمامه ورقة وبيده قلم.
بيد أننا بتنا نعرف اليوم أن بين الاقوياء في الحساب الذهني من لا يتمتعون بذاكرة بصرية متوقدة بل بذاكرة سمعية أو «بمحركات» داخلية.
والفئة الاخيرة لا تبصر الارقام بل تسمعها وترددها على أذنها الداخلية، فكأني بها في النهاية تتصرف كما لو كانت تبصر الارقام واضحة مرتبة على الورق.
«التوالد العفوي»
والفرق بين فئة البصريين وفئة «السمعيين» هو أن الفئة الاولى تحل المسألة كما لو كانت مسطرة على الورق، بينما تعمد الفئة الثانية الى تفضيل وترتيب مراحل العمل.
وقد سجل التاريخ الحديث مثلين على هاتين الفئتين لعالمين برهنا لكبار علماء الرياضة في السوربون ان كلا منهما ينتمي إلى فئة مختلفة.
وعلى أي حال فالذاكرة موهبة طبيعية يمكننا أن نقويها ولكنه لا يمكننا أن نخلقها لدى الذين لم تتوفر لديهم منذ الولادة.
|