الاعتبارات السياسية والأيديولوجية والاجتماعية والتداولية النفعية تفرض اختلافاً في الرؤى ووجهات النظر والمنطلقات والتوجهات مما يؤدي إلى تشكيل كتل اجتماعية مختلفة أو متباينة، تتفق في نواح وتتباين في أخرى. وهو أمر يجب أن ينظر إليه بنوع من الإدراك والحكمة وسعة الأفق، فالعوامل المذكورة أعلاه تفرض اختلافاً وتبايناً ولكنه ليس بالضرورة تقاطعاً وتضارباً. وإذا كان هناك أوجه اختلاف وتباين فهناك ولا شك أوجه اتفاق وتشابه، والمجتمع أي مجتمع يتكون من تلك الكتل ومن مجموعات تتشارك في التشابه في تقارب المنطلقات والتوجهات والاهتمامات، الأمر الذي يخلق مجموعات متباينة تختلف في المنشأ والمنطلقات والتوجهات وكذلك الاهتمامات والأهداف.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل هذه الأحزاب والمجموعات والتكتلات لا بد لها أن تتباين وتتضارب ولا يمكنها أن تتفق أو تتشارك في بعض الاهتمامات المتقاربة؟
وجود مثل هذه التجمعات والتوجهات ظاهرة طبيعية تنشأ مع وجود الإنسان وسنن المعيشة ونواميس الحياة فتنشأ وتترعرع جنباً إلى جنب في قطر واحد وفي وطن واحد، تشترك في تقاسم المنفعة والمصلحة العامة.
وتلك التجمعات وإن اختلفت إلا أنه يجب أن تبقى على علاقة وثيقة بالتجمعات والكيانات ذات التوجهات الأخرى، ولتحقيق ذلك يجب أن نبني قاعدة ثقافية تترفع عن التأثر بالخلافات السياسية العربية الآنية، ولا تتبنى المواقف والآراء العابرة، وتترفع عن الرؤى التي تتحرك بناءً على المصالح والمنافع، مثل هذه الثقافة ستصنع شخصية الأمة وستعلي منزلتها.
يجب ألا نبالغ في طلب المثالية، فلا شك عندنا وحدة لغوية عميقة الجذور ضاربة في القدم وفي العقل اللا واعي وفي الوجدان وفي المعرفة الإنسانية وفي التاريخ، لكن في المقابل لدينا جذور خلافات مذهبية وفكرية، ولدينا تباينات إقليمية وتقسيمات قبلية، وطوائف وأقليات مما يحتم علينا تفهم الآراء المتعددة والأخذ بها واحتواءها والتوسط والتوسع في التعامل مع جميع المنطلقات الفكرية وعدم الإصرار على توجهات محددة محكومة بحدود وقيود بعينها لا يمكن تجاوزها. يجب أن يكون لدينا هوية موحدة تحتوي الألوان والأشكال وكل المذاقات وهذا سيقود في النهاية إلى احترام الثوابت وعدم تجاوزها.
رفض الآخر يقوده إلى التطرف في التعامل و أخذ الآراء المضادة وعدم التنازل في قبول أفكار الطرف الآخر. أما تفهم آرائه على الرغم من الاختلاف معه يجعله يبحث عن صيغة تقريبية وأساس مشترك يمكن التفاهم معه من خلاله. ولذلك فالبحث عن التقريب في وجهات النظر قد يكون مطية يمكن استخدامها للحيلولة دون تضارب الآراء وتعارضها مما يقود في المراحل المتقدمة إلى إلغاء وجهات النظر الأخرى وقد يصل الأمر إلى محاولة إلغاء الآخر وإزالته عن طريق تلك التكتلات. ومنهجية التقريب تلك يمكن أن تتم عن طريق خلق فرص لمراجعة الذات ومحاورة الآخر باحترام تام له بوصفه الشريك في الوطن والمصير وحمل الهوية الواحدة والمسؤولية. حوار كهذا بين ذوي الاتجاهات والرؤى الفكرية والثقافية والأدبية والاجتماعية والعقائدية يتم على أرضية من الثقة والاحترام سيؤسس بلا شك للسير على طريق سليم تحكمه معيارية أخلاقية وقيمية وقانونية واجتماعية تعلي شأن الوطن بوصفه جزءاً من الأمة وتصون حرية المواطن وحقوقه ومناخ العمل الذي يمكنه من الإبداع وتحمل المسؤولية، وهي كذلك ترفع جملة من المبادئ والثوابت والمصالح والقيم فوق كل خلاف سياسي أو تنظيمي أو عقائدي ليكون صالح الأمة وحماية الأسس التي تقيم قائمة الدولة والأمة فوق كل خلاف وكل اعتبار.
مثل هذا الحوار لا بد أن يتمنهج في ضوء إستراتيجية عمل تستمد معاييرها من الثوابت الإسلامية العربية، التي تملي ضرورة فهم الخصوصية الإقليمية في إطار الهوية القومية والمصلحة الاقتصادية والاستقرار السياسي في إطار تكامل شامل يعمل على رفع الأمة ورقيها، مثل هذا الحوار سيؤكِّد هويتنا ووحدة توجهنا ويرفع من مستوى أدائنا.
|