* رام الله - نائل نخلة:
بامكاننا ان نتخيل أو نتوقع منهم الكثير ولكن لم يكن أحد يتصور أن تبلغ بهم هذه الدرجة من الحقد السّادي الفريد، ورغم عشرات الشهادات والقصص القادمة من سجون الاحتلال تروي تفاصيل الحقد الصهيوني على كل ما هو فلسطيني إلا ان ما تعرض له أنس شحادة، المعتقل الاداري في سجن النقب الصحراوي يتجاوز كل المعاني.
أنس كامل شحادة ، 24 عاما، من بلدة بيت اكسا جنوب رام الله، طالب في جامعة بيرزيت يدرس الهندسة الإلكترونية... جرى اعتقاله إدارياً في تاريخ 6-12-2003 واحتجازه في معتقل النقب الصحراوي.
«عملية جراحية بدون تخدير»، هل تصدقون ؟ بادرنا أنس بالسؤال فلنتركه يروي لنا دون مبالغة تفاصيل شهادته الحية حول ما تعرض له اثناء فترة اعتقاله ولنحذِّر بداية من اصطحاب الأطفال أو ذوي القلوب المرهفة الحسَّاسة أو أصحاب العيون الفيَّاضة.
مع بداية دخولي للنقب ومع غروب شمس اليوم الأول في عمق الصحراء ومع حلول الليل بدأ الألم يضرب أعماقي... لأول مرَّة أواجه ألماً من هذا النوع في حياتي... مغصاً شديداً في البطن وكأنه نصالاً حادّة تنغرس أسفل بطني... شعر الشباب بألمي فتوجّهوا إلى الجنود لاستدعاء الممرِّض... بعد ساعتين من الإلحاح والصراخ حضر الممرض... ألقى بنظرات حاقده عن بُعد... أرجع البصر على حقيبته... أعطى الشباب حبتين اكامول ثم انصرف... ولكن دون جدوى ...
ليلة اليوم الثالث هاجمني الألم والمغص الشديد بكل ضراوة... لم تُفلح الاستغاثات ولم تجد أي أُذن صاغية ولم ينم الشباب في الخيمة معي وقفوا على باب الخيمة يصرخون ويُنادون ويلتمسون من يُساعد في استدعاء الممرّض أو طبيب المعتقل... كان الجواب الجاهز: غداً صباحاً... لا يوجد طبيب اليوم... لا توجد قوة كافية لهذه المهمة... كان الهوس الأمني يفرض عليهم قوّة كبيرة كي تتمكن من سحب الأسير المريض من الخيمة إلى عيادة المعتقل.
في الصباح قرَّر الشباب إخراجي إلى العيادة مهما كلَّف الثمن... حملوني إلى باب الخيمة وأجلسوني على كرسي وشرعوا بالمناداة والصراخ كي نشعرهم بأن الأمر خطير وأن الحالة طارئة ولا بدّ من الاستجابة الفوريّة... أنا من جانبي وعندما حضر الجندي المناوب حملت في يدي كمية من حبّات الدواء وهدّدت ببلعها دفعة واحدة وأشعرته بتحمّل المسؤولية إن حصل لي أي مكروه... وتحت وابلٍ من التهديد والوعيد حضرت مجموعة من الجنود بكامل عتادها العسكري... شرّطوا أن أسير وحدي دون حمّالة أو أي مساعدة... وافقت على هذا رغم صعوبة الأمر وسرت برفقتهم كمن يُساق إلى الموت ولكنه موت لا بدّ منه... لم تحتمل قدماي السير طويلاً... زاغت عيناي فوقعت على الأرض... على الفور جاء الممرّض فوضع إبرة المغذي في يدي... نسي فك الحبل المطاطي الذي يشد على اليد كي يبرز الشريان ويسهّل عملية إدخال الإبرة... نسيه فتجمّع الدم والدواء تحت الجلد.
بعد عناءٍ طويل وسفر شاق وصلنا العيادة... لم يكن فيها طبيب فانتظرت ساعتين والألم يضرب بطني بكل نصاله... أخيراً وبعد وقت مرّ وكأنه دهر وصل الطبيب فقرّر تحويلي إلى المشفى... كبّلوني من يدي ورجلي ثم سرت معهم إلى سيارة «البوسطة» حيث سافرت بي إلى مشفى «سروكا».
بداية كان الاستقبال رائعاً... مشفى محترم فيه خدمات طبية جيدة... هكذا خُيل لي حيث نظافة المكان وحُسن الإدارة والنظام وترتيب ظاهر وفن راقِ ظاهر للعيان... الهدوء والرتابة وروعة الاستقبال... كنت بطل الفيلم حيث ان حولي خمسة جنود مرافقين كالظل وأسلحتهم مشرّعة نحوي... وعيون روّاد المشفى تُرسل نظراتها بالتعجب والاستغراب... الكل ينظر إلي وأنا لا أنظر إلا إلى ألمي الذي يزداد شدّة وعنفواناً.
قادوني حيث عيادة الطبيب... ألقوا بي على سرير الفحص... كشف عن بطني وضع يديه بصورة عصبية... كان كمن يلمس جيفة... التقزّز والامتعاض رسم نفسه على وجهه بكل وضوح... عاد إلى طاولته وأخذ يكتب... سألته بالإنجليزية... تجاهل سؤالي... سألت ثانية وثالثة ورابعة... أجاب باقتضاب شديد... الزائدة الدودية، تحتاج إلى عملية فوراً... طلبت استشارة طبيبي... الاتصال التلفوني... رفضوا بشكل قاطع... طلبت أن يتصل هو كي يطلّع من طبيبي على ملفي الطبّي ويعرف بعض الأمور التي لا بدّ من معرفتها المسبقة عن أحوالي الطبية... رفض وأظهر الضجر والغضب.
طلبت فك قيودي طالما أني سأرتبط بقيود المخدّر وقوانين غرفة العمليات عدا عن وجود طاقم حراسة بكامل عتاده... خمسة من الجنود المدجّجين يُحيطونني برعايتهم الأمنية وأسلحتهم الوديعة !
أدخلوني غرفة لتحضيري للعملية بعد ساعتين أو ثلاثة... رأيت امرأة تخرج من غرفة العمليات وجهها مستبشر وعلامات الراحة بادية في عينيها... تفاءلت وانشرح صدري ولكني سرعان ما اجتاحتني الهواجس والظنون السوداء... كيف يجتمع الطب والدواء مع هذا السلاح وهذه الأحقاد... هدّأت نفسي وحاولت تطمينها... العلاج لا يخضع لمعادلات الصراع ثم إن أصحاب المهن الطبية يقسمون يمين المهنة... لطفك يا رب.
دخل طبيب بوجه عابس متجّهم... تناولَني بنظراته وكأنه يصفعني بها... سألته ملاطفاً... لم تلامس ملاطفاتي أذنه... أمعن في تجاهلي... سألت: هل التخدير موضعي أم كلّي... لم يُجب.
نقلوني إلى غرفة العمليات... وجدت نفس الطبيب... سحنة روسية واضحة من مرتزقة تلك البلاد النائية... بدأ العمل بربط رجليَّ في طاولة العملية... طلبت فك قيودي... الرؤوس تتحرك بالرفض... تقدّم أحد الجنود لفكّها فرفض الطبيب... عجباً الطبيب يأخذ دور الأمن وجندي القهر والقمع... استمر في تربيطي بكل شدّة وإحكام... وأنا أتساءل: لماذا كل هذا إذا كنت سأدخل بعد قليل في رباط التخدير والغياب التام عن كل هذه الأشكال... ثم انتقل إلى يدي المكبلتين... ألصقهما بجسدي ولفّّّهما به بأربطته الطويلة.
كنت أوّل مرَّة أدخل فيها عملية... فتساءلت: لماذا كل هذا التربيط؟ ردّ عليّ بالمسبّات التي لم أفقه معناها على وجه التحديد... كان يسب بالروسية والعبرية الركيكة... حاولت تلطيف الأجواء كي أرى على وجهه ابتسامة علّها تخفِّف قليلاً من هذا الإرهاب النفسي الذي فرضوه عليّ... ردّ على ملاطفاتي بالغضب العارم والمزيد من المسبّات... أيقنت أن في جعبة هذا الطبيب شراً مستطيراً... توقعت أموراً كثيرة ولكني لم أتوقع ما حدث بالفعل... لا يخطر ما فعله على قلب بشر ولا قلب ذئب من ذئاب الصحاري الضارية.
انتقل إلى فمي ..سحب لساني بقسوة بالغة.. ألصقه بسقف حلقي ثم وضع حديدة تحت لساني... ضرب بكمّامة على أنفي مع ضغط شديد مما أدى إلى جرحه... لم يبق لي من حركة أو فعل أو قول إلا حركة عيني ذات اليمين وذات الشمال.
شعرت بمعجون الحلاقة ثم بالممرضات وهنّ يحلقن لي... خط بالقلم أسفل بطني وأنا أنتظر لحظة التخدير كي أغيب عن هذه المناظر القاتلة... أُصبر نفسي وأقول الآن وبعد لحظات أغيب عن هذا الوجود الصارم... لحظاتي معهم تمرّ ببطئ شديد وكأنها سنوات مديدة لا نهاية لها.
يا إلهي إنه يحمل المشرط... هل نسي تخديري... حاولت الصراخ فلم أفلح... شدّدت على جسمي فلم يتحرك شيء... لقد أحكم رباطي ولم يترك لي أي مجال... لا حول لي ولا قوّة... لوَّح بالمشرط في الهواء ثم هوى به على بطني... نفر الدم بغزارة... شعرت بصدمة عصبية تنتابني... قلبي بلغ حنجرتي... تسارعت ضرباته... اهتزّ كياني بعد أن ضرب الألم خاصرتي... شعرت بتوقف القلب وذهول العقل... أيقنت بالموت... تشاهدت على روحي ورحت أعدّ نفسي للقاء ربّي... وكأنهم لا يُريدون لي هذا اللقاء والراحة من هذه الوجوه... جاءوا بجهاز صاعقٍ صعقوا به قلبي... عُدت إلى وعيي وشعرت بهم وهم يُدخلون بربيشاً إلى المريء بكل قسوةٍ وفظاظة وآخر إلى حيث القصبة الهوائية... شعرت باختناق شديد وكأني بدون رئتين.
غبت عن وعيي ثانية بعد أن أحسست بالدماء وهي تنزلق تحت ظهري... سمعت الطبيب وهو يسب ويلعن... سمعت الممرضات وهنّ يطلبن منه شيئاً من الرحمة... هكذا كان يبدوا عليهنّ ولكن كان يُسارع بمسبّاته... يتمعّر وجهه بالحقد والانتقام ويزداد ضراوة... يردّد كلمة مخرِّب بالعبرية بين الحين والآخر... أفقت مرّة أخرى بعد صعقة قلبية جديدة فوجدته يضع مقابض حديدية يشدّ بها اللّحم... الدماء تفور والعرق يتفصّد عن جبيني بغزارة... شعرت بيد ممرضة وهي تمسح عرقي... شممت رائحة جلد محروق وكأنه كان يُكوى بالنار... لم يستخدم الإبرة والخيط ولكنه لحام بالنار... صدمت للمرّة الثالثة... توقف القلب لا أدري كم من الوقت بقي متوقفاً ولكني شعرت بالصعقة الكهربائية الجديدة.
بقيت معركة الألم على أشدِّها... جيش معه أعتى أنواع الأسلحة يُقابل من لا سلاح له سوى الدعاء والابتهال إلى الله... ساعتين في هذه العملية الإجرامية وكأنها ألف سنة... أدركت فيها كيف أن هول يوم القيامة يجعله كألف سنة مما يعدّ الناس.
أخيراً نظّفت الممرضات الجرح ووضعن شريطاً لاصقاً عليه ثم سحبوني إلى حيث الغرفة الأولى والمرأة التي عملت العملية قبلي... أين وجهها الذي لا يبدو عليه أثر ووجهي الذي صبغته كل ألوان العذاب... الألم يُشعل أعصابي ويدقّ أسافينه في بطني... والحرس من حولي يتبادلون الضحك والنكات الخليعة... لجأت إلى الصراخ بعد أن فكّوا الأربطة ونزعوا قطعة الحديد من فمّي... صراخ ونشيج حاد خرج عن إرادتي... وكأني أزعجت آذانهم الشامتة... جاءوا بالممرضة... سألتها ما يسكن آلامي فسارعت بإبرة رحت بعدها بسبات عميق... أفقت منتصف الليل على آلامٍ حادّة تطرق أبوابي صرخت وصرخت حتى جاءت الممرضة ثانية وأفرغت إبرة مرّة أخرى.
صبيحة اليوم التالي جاء الجنود بصحبة طبيب... طلبوا مني الوقوف... قلت لهم أنا لا أستطيع الوقوف... يجب أن تقوم... يجب أن تعود إلى سجنك الآن...
- حسناً أحضروا حمّالة... أنا أريد العودة... لا أريد رؤية وجوهكم لحظة واحدة.
وبعد جدال عقيم تركوني وشأني أتخبّط في آلامي.
- خذ هذه حتى يذهب الألم وتستطيع العودة إلى سجنك.
- أنا لا أستطيع القيام... ليتني أستطيع.
أخيراً قلت لهم أحضروا كرسياً متحرّكاً عندها سأعود معكم.
بعد العصر تدافعني الجنود فيما بينهم وأخرجوني من المشفى عنوة... أجرّ آلامي وكأن أرجلي قاطرة تجرّ عربات كثيرة محملةٍ بالآلام الثقيلة... أتمايل بين وخزات الألم ووخزات ضحكاتهم الساخرة وأمخر عباب القهر وأقسى أنواع التنكيل.
على باب المشفى وجدت دورية عادية... خاب ظني في سيارة إسعاف تقلّني إلى سجني وبين ثلة من الذئاب جلست في حضن آلامي أصطلي نارها... كانت تشتدّ وتضرب كل وخزاتها عندما تمرّ دوريتهم على مطلب أو أي شيء يهز أركانها فتتساقط معها آلامي على أعصابي الخائرة.
وصلت المعتقل بعد هذه الرحلة الشنيعة... طفقت أقصُّ على إخواني وكأنني من الكتاب ذوي الخيال الخصب... هل هي هلوسات مريض أو أضغاث أحلام أو شطحات هائم... لُذت إلى طبيب معتقل فقصصت عليه القصص طمأنني بأنني لست واهماً ولا حالماً وإنما هي تفاصيل عملية جراحية حقيقية للزائدة الدودية، كل ما هناك أنهم أجروها بلا تخدير... بدل تخديري خدروا ضمير الإنسان الذي لا وجود له في أفئدتهم... كانت أفئدة خاوية من أية بقايا لأي شكل من أشكال الضمير.
ما زلت أشعر بالقشعريرة والهيجان العصبي كلما رأيت وجه ذلك الطبيب ووجوه الزبانية والشياطين التي عجزت عن فعلها كل شياطين الأرض وعلى مرّ الأزمان.
|