صفق الكثير من العرب لسقوط صدام، وكاتب هذه السطور واحد منهم، واعتبرنا سقوطه بمثابة سقوط للظلم والقمع والاستبداد، وفشل الأسلوب الفرعوني: { مّا أٍرٌيكٍمً إلاَّ مّا أّرّى" وّمّا أّهًدٌيكٍمً إلاَّ سّبٌيلّ الرّشّادٌ}. غير أن المرحلة التي نتعايش معها اليوم، والتي يقف فيها الأمريكيون على رأس هرم السلطة في العراق، مرحلة انتقل فيها الإنسان العراقي من معاناة القمع والظلم ومصادرة الحريات إلى معاناة معاشية أخرى، لا تقل في تقديري عن معاناته الإنسانية السابقة، وإن اختلفت في شكلها وفي مضامينها.
صحيح أن العراقيين قد تنفسوا الصعداء، ونالوا من الحريات ما كان محرماً عليهم طوال ثلاثة عقود من الزمن؛ غير أن «الحرية» في نهاية المطاف، التي يتباهي الأمريكيون بتحقيقها في العراق، لا تطعم من جوع ولا تؤمِّن من خوف؛ فلم توفر في النتيجة ما هو أهم منها بالنسبة للإنسان العراقي البسيط: «الأمن» و«الرزق».. ومنذ سقوط صنم ساحة الفردوس في بغداد، وحتى الآن، أثبتت الإدارة الأمريكية أنها تتخبط فعلاً في إدارة مقاليد الأمور في العراق، ولم يترتب على مرحلة ما بعد النظام العراقي السابق إلا مزيد من الانفلات الأمني، وحرمان الكثير من قطاعات المجتمع العراقي من مصادر دخلهم، فضلاً عن فوضى سياسية عارمة تضرب بأطنابها في كل جزء من أجزاء العراق. وهذا الوضع فيما لو استمر ستكون نتائجه بكل تأكيد مخيبة لكل آمال كل من ظن أن مرحلة ما بعد صدام هي أفضل من مرحلة صدام بالضرورة، على اعتبار أن ليس ثمة أسوأ من صدام ونظامه.
وفي تقديري أن مأزق الأمريكيين هناك هو مأزق ثقافي ومعرفي في الدرجة الأولى أدى إلى هذا الفشل السياسي الذي نتج عنه هذا الوضع غير المستقر والذي تتفاقم خطورته مع مرور الوقت. الأمريكيون برهنوا خلال الشهور التي أمضوها حتى الآن في العراق أن فهمهم في التعاطي مع الشأن السياسي هناك يخلو من الحصافة، والرؤية الموضوعية، والفهم الأنثروبولوجي العميق للداخل العراقي، وخصوصياته الأثنية والمذهبية، وكيفية التعامل مع هذه الاعتبارات؛ مما جعل الكثير من قراراتهم قرارات متخبطة، لا تحملُ في أبعادها ولا في مبرراتها أو في دوافعها أو حتى توقيتها إلا نظرة سطحية ساذجة، تسعى إلى تحقيق «نتائج مفترضة» سلفاً بأية وسيلة، حتى و إن كانت هذه «الوسائل» ستثير من المشاكل ما هو أدهى وأمر من النتائج الإيجابية المتوخاة من هذه القرارات من وجهة النظر الأمريكية ذاتها. وليسَ أدل على ذلك من قرارهم المندفع والمتعجل الذي سرحوا بموجبه كل منسوبي الجيش العراقي وكذلك قوى الأمن إضافة إلى موظفي القطاع الإعلامي العراقي؛ وهذا في تقديري كفيل باستقطاب العداء للأمريكيين من قبل قطاعات كبيرة من العراقيين. وانخراط مثل هؤلاء في حركة المقاومة ضدهم، واتساع رقعة التعاطف الشعبي العراقي مع المقاومة، وهذا على ما يبدو ما نشهده هذه الأيام بمنتهى الوضوح وبوتيرة متصاعدة هناك.
وفي تقديري أن مشكلة الأمريكيين، والتي اتضحت بكل جلاء ووضوح في تعاطيهم مع الشأن العراقي، أنهم يتعاملون ب«معاييرهم» هم، غير آبهين البتة بالفوارق والتباينات الثقافية والأنثروبولوجية بين «بيئتهم» التي أفرزت معاييرهم، والبيئات الأخرى التي ليسَ بالضرورة أن تكون تلك المعايير صالحة للتطبيق فيها، الأمر الذي سيجعل من «تدخل الأمريكيين» في الشؤون الداخلية لبعض الدول، وبهذه المعايير والأولويات، هو بمثابة نذير شؤم، وسبب قد يؤدي في النهاية إلى انفراط العقد الاجتماعي لتلك المجتمعات التي يسعى الأمريكيون «كما يقولون» إلى إصلاحها، وهذا ما سوف تنعكس آثاره المدمرة على الأمريكيين أنفسهم وكذلك مصالحهم قبل الآخرين.
والسؤال: هل يدرك صانع القرار السياسي الأمريكي ذلك، أم أن عنجهية المنتصر، وغطرسة القوة، وغرور «الإمبراطور»، والتي هي بواعث ودوافع القرار الأمريكي في التعامل مع الخارج هذه الأيام، سيدخلهم، ويدخل العراقيين معهم، وربما كل من تدخلوا في شؤونه الداخلية، إلى نفق مظلم سيصبح الخروج منه أشبه ما يكون بالخروج من نفق تورطهم في فيتنام؟.. هذا ما سوف يُجيبُ عليه المستقبل بكل تأكيد.
|