قبل أن أذكر للأحبة القراء مرجع هذا الموضوع، سأستعرض معهم رسالة الشجن التي بعثت بها «بغداد»، وما أدرانا جميعاً ما بغداد؟ جرح قديمٌ جديد، قديمٌ قِدَمَ هجمة هولاكو التتري الغاشمة، وخيانة «ابن العلقمي» الوزير الذي دلَّ التتار على مواطن ضعف بغداد، ورسم لهم خارطة الوصول إلى مقر الخلافة فيها، وجديدٌ جِدَّة الهجمة «الأنجلوأمريكية» أو «الأمري إنجليزية»، وجدَّة الخيانات «العلقمية» أو «العفلقية»، التي سيكشفها لنا صباح الحقائق حين يشرق، وما هو عن وقت الإشراق ببعيد.
الرسالة التي بعثت بها بغداد تقول: كان المولد في سنة 145هـ الموافق 762م على يد الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور الذي وضع أوّل لبنة بيده في بنائي وهو يقول:«بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين»، ثم قال:«ابنوا على بركة الله»..
أنا «بغداد» التي أمر المنصور أن تُرسم حدودي بالرَّماد أوَّلاً، ثم جعل البناء مدوَّراً بعد أن مشى على مخطط الرَّماد، فكانت تلك هي بداية النشأة والأيام الأولى، ولا يظن ظانٌّ أنني لم أكن موجودة قبل ذلك، كلا، فقد كنت بلدة قديمة صغيرة، ولكنَّ الذي جعلني مدينة حضارية عصرية هو المنصور عام 145هـ.
ثم ماذا بعدُ يا بغداد؟قالت: بعد الشروع في بنائي، وجلب مياه الأنهار إليَّ، كان أول من تشرَّفت بقدومه من العلماء والفقهاء هو أبوحنيفة، ووضع المنصور لي أربعة أبواب نقلها من واسط، وكان قصره يقع في أوسط مياديني، وبجواره الجامع الكبير، وقد اختار الخليفة المنصور لي اسماً جميلاً هو «دار السلام» وكان يحبُّ هذا الاسم كثيراً، ويريد له أن ينتشر بين الناس.
وماذا عن أجمل أيامك يا بغداد؟:
قالت: كانت فترة الخلافة العباسية هي الأجمل بالنسبة إليَّ، وكانت السنوات الأولى منها حافلةً بالكثير من الأحداث الجميلة الخالدة، ولعل قدوم العلماء والفقهاء والوزراء والوجهاء والبلغاء والأدباء هو الذي زيَّن مجالسي وجعل من أيامي ولياليَّ أياماً وليالي لا تُنْسَى، والأحداث التي رواها عني المؤرخون كثيرة، ولكنَّ أيام المنصور والرشيد والمعتصم وبعض أيام الأمين والمأمون كانت هي الأجمل، تعاقبت فيها أيام السعد والهناء والنصر، وازدهرت بها ينابيع الحكمة، ولبعض الرجال فيها مواقف مشرِّفة سجَّلها التاريخ، وعشت فيها أيام نصر خالدة، أعزَّ الله أولياءه فيها، وأذلَّ أعداءه، وانتشرت فيها في مساجدي ومدارسي علوم شتى، ومعارف كثيرة منها التراجم والحوار والمناظرة، وثبت رجال، وانهزم آخرون وهكذا الأيام.
هذا جزء من رسالة بغداد، جرى على لسانها العربي الفصيح في سَرْدٍ تاريخي مؤثر لنشأتها، وتطوُّرها، وحضارتها، وسقوطها، وقيامها، والرسالة أطول من هذا فيها أحاديث شتَّى عن سقوطها على أيدي التتار، وأسباب هذا السقوط، ثم سقوطها في أيدي البعثيِّين الاشتراكيين الذين كبَّلوها بفكر منحرف، وعقيدة مضطربة، وعزلوها عن قيمها الإسلامية عزلاً قاتلاً جعلها هدفاً سهلاً لمن سقطت في أيديهم أخيراً هذا السقوط الذي ما زال ينزف ويذرف وتراه العين وتسمعه الأذن، ولن يكون - إن شاء الله - سقوطاً أخيراً من حيث السقوط بل، لعلَّ الواقع يؤكد أنه ليس سقوطاً كما كان سقوطها في أيدي التتار، وإنما هي عثرة قاسية سيكون بعدها النهوض - إن شاء الله -.
هذا الحوار البغدادي، وهذه الرسالة الشجيّة جاءت بتفاصيلها في العدد الأخير من مجلة «الإرشاد» وهي مطبوعة داخلية إرشادية ثقافية فصلية يصدرها جهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني تحت إشراف رئيس هذا الجهاز د. إبراهيم أبوعباة، فتحية له وللقائمين على هذه المطبوعة المليئة بالموضوعات المتميزة.
إشارة
لنا يا رب إيمانٌ يرينا
جلال السير في الدَّرب العسير
|
|