ليس الحوار حول قضايا الفكر في ثقافتنا شيئاً مستجداً، بل ممتداً في جذوره، وبدايات تشكله إلى أوائل عصور الإسلام، فعلم الكلام تأسس من خلال مداولات حوارية مطولة، قاد من خلالها محاور الاختلاف في قضايا أصول الدين والمسلمات والثوابت ولكنه في نهاية الأمر كان يؤدي دوماً إلى الخلاف وأحياناً الحرب وهو الجدل الذي أسفر عنه أيضاً الإقصاء كأسلوب سياسي في الحكم، وكحل لحسم القضايا المختلف عليها، ولهيمنة أحكام اجتهادية مجردة.
ولم تملك تلك الافكار القدرة على الخروج من طور التجريد إلى ميدان التطبيق والمنهج العلمي، ولم يكن ذلك بسبب قصور ذاتي في مصادرها، ولكنه العقل الذي تجمدت قدراته عن الإبداع والابتكار في عالم الحقيقة النسبية، فالحوار الذي يدخل في طرف يجزم بوجود حقيقة مطلقة الصواب وممتنعة عن النقد والمراجعة سيقع في مطب حلول الإقصاء وتسخير حسام تلك الحقيقة لقطع دابر المعادين لها، وتلك .. بالتأكيد كانت إشكالية بشرية عامة قبل أن تكون عربية خالصة.
ولكن أن يبدأ حوار وطني بين فئات المجتمع المتنوعة حول مصلحة الوطن ومبادئه العظيمة ومكتسباته التاريخية، فهو قد يعني اننا نتحرك في اتجاه جديد، يقودنا إلى خارج دوائر الثقافة المغلقة، وإلى ساحة أرحب وأبعد من مجرد استغلال أفكار قاطعة في حدها، فكل فكر مجرد يحمل في مضمونه بذور تطرف ولا يزال هذا الفكر بانشقاقاته المتواصلة أكبر تهديد لاستقرار الشعوب في العالم العربي، فالفكر يتمرد ويتجرد من غمده إذا توفرت البيئة المناسبة له، والإنسان العربي مثلما تطرف باسم السلفية الحقة، تطرف أيضا عندما شاع فكر اليسار والمد القومي وقبل ذلك بقرون دخل متاهات تطرف الفكر الباطني وغيرها من تيارات الفكر، وسيجد دوماً فكراً يغذي تطرفه إذا فشل السياسي في قيادة مجتمعه إلى الأمن والرفاهية والتطور فقضايا تدهور الاقتصاد والظلم الاجتماعي والأمية عوامل تساعد على بروز التطرف في المجتمع، وتستقطب له على تلك الأرضية أنصاراً وأعواناً.
والإشكالية العربية تكمن في انفصال تيارات الفكر عن ميدان الحياة العملية، ولا يظهر في الأفق ما ينبئ عن تغير الحال في المستقبل القريب، فالفجوة عميقة بين نظريات الفكر الموروث وبين ما يحدث في ساحة العمل.
والأوربيون لهم تجربة مماثلة فقد اعتمدوا كثيراً في فترات زمنية سابقة على هذا الاتجاه من خلال التأمل الفلسفي المجرد الذي لا يرتبط بالواقع مما أبعدهم عن الواقعية العملية في تلك الفترة، وأفضى بهم إلى الضياع في دوامة الأفكار الفلسفية المجردة، وهو الأمر الذي جعلهم متأخرين عن الأمريكيين في تلك المرحلة وإن كانوا أكثر منهم عمقاً في مجال التفكير، واليابانيون هم أصحاب المنهج العملي المجرد حيث العمل الجاد الذي لا ينقطع والتشكيل المنظم الذي يستثمر الجهود الذاتية بشكل كبير ويصبها في الاتجاه العملي المكثف، وهو اتجاه ربما تطرف في تجريد العمل من الحس الإنساني.
وما يؤزم الواقع المحلي، هو وجود عالمين من الفكر لا يلتقيان في تقاطع وهما عالم الفكر المجرد وعالم الواقع العملي والفكر الإسلامي بكل مبادئه الأصيلة وثوابته لم يتجاوز منذ قرون إشكالية العمل من أجل الحقيقة الموحدة مع المنشقين من أصوله منذ القرن الأول، ولم يشفع استمرار ذلك التفرق لأربعة عشر قرناً في أن يصبح عالم التعددية واقعاً لا مفر منه، ولا يمكن أن يتحقق الاستقرار من دون الاعتراف به والاتفاق على أن كرامة الإنسان تأتي أولاً، فحلم الالتقاء والتراجع عن مقولات واجتهادات نظرية صعب للغاية في حالة العداء، ولكن قد تتلاشى بعض مفاهيمه الحادة عندما تهيمن ثقافة التسامح والعمل.
والحوار الأهم حسب وجهة نظري هو الذي يجب أن يكون في عالم الواقع بين الفئات المحلية العاملة وبين رجال الأعمال السعوديين وأصحاب القرار فما يحدث في ذلك الميدان لا علاقة له بصورة مباشرة بما يحدث في الحوار الوطني الفكري المجرد فالعامل السعودي بكل فئاته الدنيا والعليا لا يملك آلية يطالب من خلالها بحقوقه في العمل ومستحقاته وبالأجر الذي يتناسب مع ارتفاع هامش الربح في السوق السعودية وهي السوق التي يسيطر عليها بكل جدارة رجال الأعمال والعمالة الأجنبية، والأرقام التي نشرها الباحث خالد الفريان في كتاب صدر له حديثاً ونشرت نبذة عن نتائجه معظم الصحف المحلية في يوم الأربعاء 18 يونيو 2003م تتحدث عن تلك العلاقة بكل وضوح ففي تلك الدراسة يشكل الأجانب القاسم الأعظم من العمالة ويقدر تعدادها بسبعة ملايين عامل ففي عالم البناء والتشييد يشكلون نسبة 92% من العمالة، وفي عالم الصناعات التحويلية 82% وفي البحوث والاستشارات 82%، وفي الخدمات الصحية 62%، ويشكل الاطباء الأجانب نسبة 87% من مجموع الاطباء في البلاد وفي مجال النقل والاتصالات 67% أما في سوق تجارة الجملة والتجزئة فتصل نسبة العمالة غير السعودية إلى 76% وفي الفنادق والمطاعم 84% وتقدر تحويلات الوافدين للخارج 78 مليار ريال سعودي.
والمجتمع دخل منذ سنوات إلى عالم المديرين التنفيذيين، وهي ظاهرة برزت في المجتمع الرأسمالي في الغرب في عصر النهضة الصناعية وخلال ثورة المداخيل الكبيرة وانتقلت أثناءها إدارة دفة العمل من المالك إلى المدير التنفيذي الذي كان دوره آنذاك موازنة مصالح المالك ومطالب العمال، ولكن الحال يختلف في الواقع المحلي الذي لا يزال يعيش في عصر الاستهلاك وتجارة الخدمات، التي انتقلت عدواها من الكهرباء والاتصالات إلى ضروريات مثل التعليم والعناية الصحية لتتحكم طبقة المديرين التنفيذيين بسوق العمل الاستهلاكي، وتضغط على العامل والمستهلك السعوديين، وتفرض عليه إما أن يقبل بأجر العامل الأجنبي أو ينضم لسجن البطالة الكبير، ولم يتوقف انتشار ظاهرة المديرين التنفيذيين في الشركات المساهمة بل تعدتها إلى مؤسسات حكومية.
ولم تتبدل تلك النسب المروعة خلال عصر المديرين التنفيذيين الجديد، الذين يسعون في ظل اقتصاد الخدمات المتصاعد لجلب هامش عالٍ من الربح للمالك وذلك من خلال بيع السلعة أياً كانت بسعر أعلى وتقديم أجر منخفض للعامل أو الموظف الأجنبي أو السعودي، وما يزيد المشكلة عسراً هو غياب جمعيات نفع قانونية تطالب بحقوق العامل السعودي وبتوفير أجر يتناسب مع هامش الربح المادي وبمراقبة الزيادة المستمرة لأعداد العمالة الأجنبية ولن يتوقف المدير التنفيذي غير المقيد بقانون أو حقوق عمال وطنية عن استغلال الفرص المتاحة له لتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح المادي وسيسعى إلى تحسين وضعه الشخصي على حساب أولئك الذين لا يملكون أي قدرة على التأثير على قرارته.
والمثير في الأمر أن موروث الفكر الإسلامي وأخلاقياته والإيمان بمبادئه العظيمة لم يستطع أن يكبح جماح تغلغل رأس المال بلا قيود في المجتمع، ولم يستطع إضفاء روح الإنسان على قرارات المدير التنفيذي ولا غرابة فالتاريخ علمنا أن وسائل الوعظ والمناشدة والمناداة لا تنجح، والدور الأهم يظل للسياسي لإيجاد حل لتلك المعضلة المزمنة ولوقف النزيف المادي الذي لم يتوقف عن السيلان بسبب اجتياح العمالة غير السعودية للسوق وذلك عبر إعلان حقوق مشروعة للعامل السعودي وبدء حوار وطني لا يتوقف عن وطنية رأس المال وتلك الحقوق وضرورة اتاحة السبل، التي تؤمن المساحة القانونية أمام المواطنين للدفاع عن حقوقهم الوطنية في أولوية الحصول على فرص عمل في وطنهم العزيز..
|