Friday 20th june,2003 11222العدد الجمعة 20 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

14-7-1390هـ الموافق 15-9-1970م العدد 311 14-7-1390هـ الموافق 15-9-1970م العدد 311
أرجو أن تبقى كما عهدتك..؟!

الحقيقة «زنبقة» بريئة كل إنسان يريد أن يلثم شفتيها.. وأن يقبل وجنتيها.. ولكنّ لتلك سبيلاً فيها «منعطفات» كثيرة متعرجة.. ومن لم يتأبط بين جنبيه مصباحاً كمصباح «ديوجين» فهو - بالتأكيد - لن يظفر بذلك الحظ العظيم؟!
ومن هنا أقول لك يا أخي «بدر أبو القاسم» إنك كدت أن تنأى عن الطريق الصحيحة للحقيقة بعد أن كنت تسير في طريقها بخطى واثقة ثابتة في نقدك الأول لكتاباتي.. وصدقني أنني بعد قراءة نقدك لأول مرة طوقني شعور كذلك الشعور الذي طوق «فولتير» بعد قراءته لكتاب «ألف ليلة وليلة» إذ تمنى «فولتير» بعد قراءته الأولى لهذا الكتاب أن يصاب ب«فقد الذاكرة» ليقرأ الكتاب مرة ثانية فتعود إليه تلك النشوة التي غمرته وهو يقرأ الكتاب لأول مرة!!
ولكن في «تعقيبك» على ردي أوشكت أن تنحرف عن الطريق الموصلة لتلثيم جبهة الحقيقة.. وقد تكون قلة القناديل هي السبب.. وقد تكون كثرة المنعطفات هي السر.. وقد يكون كلاهما لا أدري..؟!
عزيزي بدر: فأولاً يبدو لي أنك فهمت من قولي «إنني أنا وغير ممن يكتبون عن آلامهم الذاتية لست إلا أنت وغيرك ممن لا يكتب عن آلامه الذاتية».
يبدو أنك فهمت أنني أعني أن لا تستطيع أن تعبر عن آلامك وأحزانك الذاتية.. وأنا أعني أن ذوي الاحساس في هذه الحياة على شطرين: شطر «مثلك» صلب صلد لا تعبث به يد الأمواج.. ولا تزعزعه هرقلة الأعاصير.. فهو يصبر في وجه الألم.. ويصمد تجاه نار الحزن.. وهذا شيء رائع وجميل فهو إنسان استطاع أن يكتم آلامه.. وأن يكبت أوصابه!؟
وشطر آخر مثلي - ضعيف أجل ضعيف .. النسمة الرقيقة تخلق بين جنبيه غضبة (مضرية).. واللمسة الخفيفة لوتده تجعله يخرج ألحاناً مأساوية حزينة.. فهو لا يستطيع أن يكفن انفعالاته في صدره.. أويردم على معاناته في أعماقه.. ولكن - ومع كل هذا - لا يعني أن يؤدي به هذا - إلى «السقطة» أو العجز أو الاستكانة، بل أرى أن القضية على العكس من ذلك.. فإن بلورة الألم.. وجعله مشاهداً مرئياً كفيلة بتشخيص الداء.. ومن ثم وضع المباضع عليها.. أو بتعبير آخر كما يقول السياب «إنني أكتب لارى احتراق نفسي على الورق».. وأنني أرى أن الإنسان عندما يكتب معاناة آلامه.. وارهاصات أشجانه.. إنما هو بهذا يقتلع «معولاً» أن لم يزله تكتل مع معاول آلامه الأخرى.. وبالتالي يقضي ذلك الإنسان نحبه على يديها وينسل من الحياة دون أن يفيد شيئاً.. وإن لم تقض عليه تلك «المعاول».. فإنها ترفد آماله.. وتبلور آلامه.. فيكون في هذه الحياة كأطرش في زفة.. يقول أحد المفكرين «قد نقتل آلامنا بحجرها في صدورنا.. ولكنها بالتالي تقتلنا.. أرجو - يا أخي بدر - أن تفهم هذه العبارة حق فهمها فلعلك بعدها تتفق معي؟!
ثم شيء ثالث يا أخي بدر، يجب عليك أن تفهمه ألا وهو أن الإنسان مجموعة من العواطف والمشاعر.. ومن أبرز تلك العواطف الإحساس بالألم.. وأن قبر ذلك الاحساس وعدم التعبير عنه.. يؤدي هذا بالضرورة إلى - الانفجار - كما يقرر ذلك علماء النفس.. وخاصة عندما يكون احساس ذلك الإنسان أشبه بورقة «السولفان» فإنه مهما أراد ذلك الإنسان أن يكون «مثالياً» و«صبوراً» فإنه لا بد أن يكون لتلك المثالية وذلك «الصبر» أضرارهما السيئة.. ومن هنا فإنه لا يجد مخرجاً من ذلك سوى «البوح» بما يعايشه رأد وجدانه؟!
أخي بدر.. واسترسل معك في تعقيبك فأنت قلت ما معناه «أن ألمي ليس كما ألم الشابي أو المعري أو كولن ولسن لأن المهم يحدد أبعاداً.. ويوجد حلولاً» والحقيقة أنه تملكني موجة غرابة.. فأنا لا أفهم معنى للتفريق بين كينونة الألم وماهيته فسطور الألم تخطها أنامل العاطفة.
وتدبجها نيال القلب.. فالألم «بوتقة» واحدة مهما كان نوع الحطب المشتعل فيها كالنار مثلاً بمثل.. فهو تلتقى فيه كل القلوب وهو كما يقول جبران «أقوى من رابطة الغبطة والسرور فالقلوب التي تدنيها أوجاع الكآبة حاشا أن تفرقها بهجة الأفراح أو بهرجتها».
أخي بدر - ثم إنني أخالفك عندما قلت أن الألم أو البؤس يؤديان إلى اليأس ومن ثم العجز والاستكانة.. لقد نأيت عن شاطئ الحقيقة في هذا.. فالألم هو صاقل الشعوب.. وهو محكها وحافزها.. والأمة إن لم تتألم فأفرادها إلى «العجماوات» أشبه منهم بالبشر.. والألم يولد الاحساس.. ويفجر القلق..
ومن ثم يصمد الإنسان وتصمد الأمة.. ومن ثم يحقق آماله.. وتحقق آمالها.. يقول أحد المفكرين.. «يجب على الإنسان أن يتعلم الألم فإنه إن تعلمه أصبح قطعة منه وإن لم يتعلمه أصبح الألم يقطعه»، ولقد ضربت يا أخ بدر مثلاً على أن الألم يورث التخاذل. ومثلت بسكان الهند والصين في القديم.. وما أراك أصبت صواباً في هذا.. فشعب الهند في الحديث لم يطرد عنهم أشباح التخاذل.. ولم يقتلعهم من براثن اللا مبالاة إلا «غاندي» عندما جعلهم يحسون بالألم الذي يعايشونه.. وبالبؤس الذي يخادنونه.. وكل الشعوب التي كانت تدوس كرامتها قوى الاستعمار.. لم تتحرر ولم ترس قواربها على شواطئ أمانيها.. إلا عندما أحست بالألم الذي تعايشه.. ومن ثم ناضلت وتحررت.. وشعب الجزائر ليس عنك ببعيد..
ودونك الشعب الفلسطيني اليوم عندما بدأ يحس بالألم والحرمان..بدأت تخضل بين جنباته شجيرات الأمل وأزاهير التحرر على أيدي أولئك الذين بدأوا يسقونها بدمهم.. ونجيعهم ألا وهم.. «الفدائيون»!
عزيزي بدر.. بقى علي فقرة واحدة أريد أن أناقشك فيها.. ولكن صدقني أنني أدخل معك في نقاشها وغربلتها وأنا أردد «مكره أخاك لا بطل» لأنها قضية في أعماق أعماق «الحضيض» لأنها تتعلق بالشكليات وبودي أنك استمررت في نقدك الحيوي.. والذي جمعني وإياك على بساط الآمال والآلام. ولكن - سامحك الله - أبيت علي ذلك.. وكنت أتمنى بكل حفنة حب في ذاتي أنك لم تتطرق إليها لأنك في نقدك الأول كان نقاشك لي في قضية هي كل قضايانا.. لقد كان بودي أنك بقيت كما أتصورك قمة في سمو أفكارك.. وقمة في أبعاد فهمك.. وقمة في بعدك عن الشكليات وهذه الشكليات التي أعني هي قضية انكارك للأقواس وكثرة النقط وعلامات الاستفهام؟! فأقول لك بإزائها: يجب أن تفقه أن لكل واحدة منها دلالة مقصودة ترمي إلى شيء قد لا تستطيع الكلمات أن تعبر عنه.. إنها عندما توضع في مواضعها تخلق تساؤلات وحيوية في ذهن القارىء ثم أرجو أن تكون عندما أنكرتها علي ألا تكون من أولئك الذين يعنيهم الأعمى الخالد وفيلسوف المعرة عندما قال: «إذا فعل الفتى.. إلخ وعليك البقية» وأما نقدك للعنوان «حروف منتحرة» وهو من ضمن الشكليات أيضاً والذي ركزت فيه أنه لا يدل على «محتوى المقالات» فأولاً أكرر ما قلته لك وهو أنه يبدو لي أنك لم تتابع كل ما كتبت تحت هذا العنوان.. ثانياً أن الانتحار لا يعني الموت في هذا العنوان بقدر ما يعني فوران الانفعال وكمال الحيوية.. فإذا كنت لا تفهم أن هذه الكلمات قد بلغت ذروة انفعالها.. وقمة غليانها.. وقمة آلامها والانتحار المادي لا يأتي إلا نتيجة لهذه الأشياء.. فمن هنا أري أن هذا العنوان يمثل كل المحتوى وكل الكينونة لهذه المقالات، ثالثاً انني بهذا العنوان لم آت بما لم تبتدعه الأوائل.. فلقد سبقني في هذا، بل وأعظم منه خلق كثير.. ومثالاً على هذا اعتقد أنك قد سمعت أو قرأت ذلك الديوان الرائع للأديب والشاعر الكبير حسن القرشي الذي بعنونه ب«حروف منتحرة».
أخيراً وقبل أن أضع الشارة الحمراء أمام يراعي يلوح أمام ناظري الآن سؤال كبرج «بابل» ألا وهو «إنني لا أدري لماذا لم تأت في هذه الملاحظات إلا في نقدك الأخير.. أما في نقدك الأول فلم تأت على شيء منها؟!
ختاماً بكل نبضات الإخلاص والحب في وجداني أشكرك على نقدتك الكريمة.. والتي أشعر بأنني أكتب شيئاً يستحق النقد والتقويم.. وأرجو قبل أن أودعك أن تدعو معي بأن يأتي اليوم الذي أكتب فيه بعنوان «حروف مبتسمة» بدلاً من «حروف منتحرة».

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved