تُشكل قضية اللاجئين الفلسطينيين في حزام الشتات خارج فلسطين، أهم الألغام الموضوعة في طريق «خارطة الطريق» التي تقطع عهداً بانبعاث دولة فلسطينية في عام 2005م فالخطة لا تصرح بحق عودة حوالي أربعة ملايين من شعب هذه الدولة الموعودة وهو أمر يقلب رأس الحقائق بل كل الرؤوس إذ كيف تقوم دولة وينفى نصف شعبها خارج حدودها.
وهذه القضية تراها حكومة احتلال الأراضي الفلسطينية معضلة «ديموغرافية» حيث يضع علماء جغرافيا السكان أهمية لتنامي عناصر سكانية متنافرة لا يُوحد بينها المقصد، بازاء بعضهما، في منطقة واحدة لا تفصلها إلا حدود واهية ملتصقة ببعضها. وهي الحقيقة البارزة التي تصدم عقل المحتل وتؤرق تفكيره، ويزداد الأمر سوءاً في حالة حكومة عنصرية كالحكومة الاسرائيلية، وعقيدة صهيونية، دأبت على تنمية المبادئ العنصرية وأسباب التسيد وسلب الحقوق. يتضح هذا التوجه في سُعار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، في حربها على إقامة المستوطنات على ما تبقى للفلسطينيين، من أراض فلسطينية بعد نكبة يونيو 1967. واستمرارها في هدم القرى الفلسطينية وإقامة المستوطنات على انقاضها. وتمثل حكومة «شارون» وهو مهندس تدمير المدن والقرى والنجوع الفلسطينية، أبشع نموذج لهذا الغلو الإسرائيلي.
والواقع المرّ أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، كانت تتنامى على مدى خمس وخمسين سنة، وتفتح في تناميها أنواعاً من الجروح والمآسي الإنسانية في غيبة من قرار عربي فاعل. لقد تعامل العرب مع قضية اللاجئين في فترات حرجة - كان يمكن علاجها- على أنها قضية إنسانية، علا في خطابها منطق «النخوة العربية» الذي دفعته وشائج ثقافته ألا يتخلى عن «لحمه» وأن يفسح له داره ويمنحه ماءه وعيشه، في أعقاب هزائم مذلة، فيما كان المحتل دأب السهر والعمل على جذب ألوف يهود الشتات إلى الأرض الموعودة- وهو الزعم اليهودي المعروف.. ومنهم آلاف كانت تحتضنهم بلاد عربية. ولم يُفعّل ذلك إلى مقايضة حتى على الطريقة «الشيلوكية» اليهودية. ففيما كانت تُفتح الحدود العربية لعبور آلاف اليهود. كانت هذه الحدود مفتوحة لقدوم آلاف من أبناء فلسطين المهجرين قسراً من أراضيهم وتفريغها لحساب المحتلين السكان الجدد.
وفيما غاب خطاب السياسي العربي عن التمعن في هذه المشكلة، كان خطاب الثقافي حاضراً واعياً بابعاد هذه القضية. ويبدو أن قرار المبدع الثقافي بيده، بقلمه بوعيه حاضراً طوع بنانه، بينما القرار السياسي العربي معقد مرتعش ينقصه إجماعه ووحدة قراره، ولا يقرأ نبض المبدع صاحب الهاجس المنبعث من فورة الوجد الإنساني. على هذا النحو تبدو روائع الإبداع الفلسطيني مُعبرة عن هذا التمزق والانكسار الذي يواجه الإنسان الفلسطيني، مما لم يواجهه إنسان آخر في هذا العصر، من قهر يومي وتمييز عنصري، وتلوح رائعة «غسان كنفاني» «رجال في الشمس» كعلامة بارزة في مسيرة هذا الإبداع، فهي تختزل تاريخ النكبات الفلسطينية، وتقدمها في لوحة إنسانية غامرة بالمأساة والإنكسار، حيث يقضي ثلاثة فلسطينيين حتفهم في خزان المياه المحمول على ناقلة تقلهم من البصرة إلى الكويت عبر رحلة الشتات، حينما يحاول سائق الناقلة تهريبهم عبر نقاط الحدود، فيقضي الثلاثة الذين يمثلون أجيال النكبات الثلاث 1947، 1948، 1967 في الخزان الفارغ من الماء، الذي تحول إلى فرن بفعل حرارة «القيظ» فيختنق الثلاثة. في رؤى المبدع التي لا حدود لها، يتسع هذا «الخزان» ليصبح رمزاً لهذا المدى المترامي الأطراف، المعروف بالبلاد العربية، يدخله الفلسطينيون خلسة كالبضائع المهربة. أو مفتوح الذراعين كوطن ثان تحت ضغوط الهزائم والتشريد.
هذا هو خطاب الثقافي المبدع. أما رؤى الواقع، فيأتي بالحقائق التالية:
منذ صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم الأراضي الفلسطينية رقم 181 في 19/11/1947 بدأت هجمات العصابات الصهيونية، وفق مخطط منظم لإبادة الشعب الفلسطيني وتقليص أماكن إقامته، واقتلاعه من أملاكه بعدة طرق، وحينما قامت حرب 1948 كرد فعل مقاوم، نتج عن هذه الحرب احتلال أراض عربية فلسطينية واقعة في خطوط التقسيم كالجليل الذي كان يقطنه 123 ألف فلسطيني ويافا 114 ألفا، وفي خطة منظمة تم الاستيلاء على مئات القرى الفلسطينية الصغيرة، وتم هدمها وأعيد بناؤها بأسماء عبرية، في محاولة لإزالتها من خريطة فلسطين نهائياً. وخلال عام 1948 تم اخراج وتهجير ما لا يقل عن 800 ألف فلسطيني، كانوا يسكنون قرى وبلداناً عربية، خضعت بموجب التقسيم للكيان الصهيوني.
كانت هذه هي البداية المؤلمة لحالة اللاجئين، التي كان فيها صوت مبعوث الأمم المتحدة «برنادوت» عالياً وواضحاً في أول تقاريره التي رفعها إلى الأمم المتحدة في 11948/9/6 وجاء فيه: «ان أية تسوية لايمكن ان تكون عادلة وكاملة، ما لم يتم الاعتراف بحق اللاجئ الفلسطيني في أن يعود إلى المنزل الذي طرد منه، نتيجة لما رافق النزاع المسلح بين الفلسطينيين واليهود في فلسطين من أخطاء، لقد جاءت الأكثرية الساحقة للاجئين الفلسطينيين من مناطق تقع وفقاً لقرار التقسيم بتاريخ 29/11/1947 في الدول اليهودية، وانه خرق فاضح لابسط مبادئ العدالة ان ينكر على هذه الضحايا البريئة حق العودة إلى منازلها، في حين يتدفق المهاجرون اليهود إلى فلسطين، ويشكلون في الواقع خطر استبدال دائم للاجئين الفلسطينيين الذين لهم جذور في الأرض منذ قرون. إن مسؤولية الحكومة الاسرائيلية المؤقتة لإعادة الممتلكات الخاصة لمالكيها الفلسطينيين، وفي التعويض على أولئك المالكين عن الممتلكات التي دمرت عمداً، مسؤولية واضحة تماماً بصرف النظر عن التعويضات التي قد تطالب حكومة اسرائيل الدول العربية» واستناداً إلى هذا التقرير الواضح المبكر الذي دفع صاحبه حياته ثمناً لنزاهته، حيث اغتالته العصابات الصهيونية لاخماد صوته، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11/12/1948 على قرارها 194 بضمان حق العودة للاجئين وحق التعويض.
ومنذ ذلك التاريخ، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة أكثر من 30 قراراً في هذا الشأن. وقد تطورت هذه القرارات منذ العام 1952 حتى عام 1969، حيث أصبحت قضية شعب وثورة ومقاومة، يطالب بحقوقه عن طريق الكفاح المسلح. ولم تعد قضية لاجئين وإغاثة.
ومن اللافت للنظر في هذا السرد الانتقائي لقضية اللاجئين الفلسطينيين، والذي يعتمد فيه الكاتب على مصادر فلسطينية رسمية، هو غياب أي شكل من أشكال الحكومة الفلسطينية، داخل الأراضي المحتلة، أو خارجها. فلماذا لم تقم حكومة فلسطينية في الأراضي التي وقعت تحت السيادة العربية، كالضفة الغربية، أو في قطاع غزة. حكومة تعترف بها الدول العربية، تنظم كفاح هذا الشعب الذي تشرد. وهو الوضع الذي قام في وقت متأخر، حيث تعقدت الأمور فيه بشكل بدأ يخنق هذه الدولة المأمولة. لقد رضخت دول عربية لمبدأ أن تكون مسؤولة عن إدارة شؤون الفلسطينيين في هذين القطاعين، مما عمق من جذور هذه القضية.
وفيما يتعلق بقرارات الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن في مسألة اللاجئين الفلسطينيين، وحقهم في العودة إلى ديارهم، كان يواجه باستخدام الولايات المتحدة منفردة بحق النقض، وخلال الفترة من 1976 حتى 1980م اتخذ مجلس الأمن، توصيات بحق النازحين وعودتهم إلى بلدانهم، لكن مشاريع تلك القرارات كانت تواجه بحق النقض الأمريكي.
وتشير المصادر الرسمية الفلسطينية إلى أن عدد سكان الشعب الفلسطيني في فلسطين وخارجها في بداية عام 1998 بلغ 185 ،788 ،7 نسمة. يعيش ما نسبته 54% خارج حدود فلسطين، تتركز أغلبتيهم في الأردن وسوريا ولبنان، وقد تطور هذا العدد حسب مصادر المركز القومي للدراسات والتوثيق (ذاكرة فلسطين) عام 2000 إلى أن وصل عدد الفلسطينيين إلى أكثر من ثمانية ملايين ونصف المليون يشكل اللاجئون منهم حوالي أربعة ملايين ونصف المليون. وتعترف وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» وهي إحدى وكالات الأمم المتحدة، بأن عدد اللاجئين المسجلين لديها رسمياً (121 ،602 ،3) ولايشمل هذا الرقم جميع اللاجئين، ولا حتى أولئك الذين نزحوا بعد حرب 1967 ولا أولئك الذين منعوا من العودة وقت اندلاع حرب 1948. وتقدر المصادر الفلسطينية، أن هناك أكثر من 001 ،340 ،1 لاجئ غير مسجلين لدى (الأونروا).
ويصف تقرير لهيئة الاستعلامات في السلطة الوطنية الفلسطينية، جانباً من حالة اللاجئين على هذا النحو:
«إن أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، هم اليوم دون جنسيات، ومحرومون من حق المواطنة في أي بلد، إذ لاتعتبر وثائق السفر التي يحملونها دليلاً على المواطنة، ولم يحصل الفلسطينيون على نحو جماعي، على جنسيات سوى في الأردن وإسرائيل، ويناقش البعض - ليس دون أسباب واقعية- ان حقوق المواطنة في هذين البلدين، مازالت منقوصة وقائمة على قدر من التمييز. وحتى الآن فلا توجد إحصائية دقيقة لعدد النازحين، وذلك لصعوبة فصلهم عن لاجئي عام 48 إضافة إلى أن الأردن -على سبيل المثال- لم يقم بإحصاء النازحين إليه آنذاك باعتبارهم مواطنين أردنيين انتقلوا من إحدى ضفتي المملكة إلى ضفتها الأخرى».
وفي ظني بل في إيماني المترسخ في أعماقي، عن قناعة استقرائية للواقع والتاريخ، أن مشكلة اللاجئين أبعد وأخطر من هذا الذي يصفه تقرير الهيئة العامة للاستعلامات الفلسطينية، وبكل تأكيد فهم واعون للأخطار أكثر من غيرهم، ولديهم تصوراتهم الواضحة لحجم الفادحة. إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين هي أهم بنود قضية فلسطين، بل هي لحمة هذه القضية وسُداها. في إسرائيل ترتفع أصوات في كل آن وكل لحظة، تطالب بأن على العرب والدول الإسلامية، أن تستوعب هؤلاء اللاجئين وأن لدى هذه الدول متسع من الأرض ومجال أكثر للعمل يستوعبهم أما عرب الداخل الفلسطينيون فسوف تتكفل بهم على مدى السنوات القادمة، آلة القمع والإبادة الاسرائيلية، التي تحظى بدعم متواصل من الدولة الأم الولايات المتحدة الأمريكية. ويعي كل من الطرفين الأمريكي والإسرائيلي، التشابه التاريخي في النشأة والأهداف. نشأت أمريكا على جثث شعب أبادته، وأمضت على مدى سنوات من تأسيسها، في اجتثاث الشعب الهندي الذي أثبتت الوثائق ان تعدادهم يزيد على 112 مليون إنسان. حينما قدم إليهم هؤلاء المستعمرون الانجلوساكسون. إنهم سكان قارة كاملة، لم يبق منهم سوى ربع مليون في أوائل القرن العشرين (منير العكش، حق التضحية بالآخر ص11، 2002) وبالمقارنة والمشابهة، الشعب الهندي هم أهل البلاد الأصليون، هم الشعوب الأمريكية الأصيلة، أما هؤلاء الماثلون اليوم ليسوا سوى محتلين جاؤوا من بلدان شتى أساسهم انجلوساكسون وهو نفس المعنى الذي يصفه في وقت مبكر أحد نواب الكونجرس «جيمس بولدين 1834-1839» في قوله:
«قدر الهندي الذي يواجه الانجلوسكسوني، مثل قدر الكنعاني الذي يواجه الإسرائيلي: إنه الموت».
وهو -على نحو ما يفكر فيه العكش -«إن أمريكا ليست إلا الفهم الانجليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية».
إن فكرة أمريكا فكرة «استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة» عبر الاجتياح المسلح وبمبررات «غير طبيعية» هي محور فكرة إسرائيل التاريخية، وان عملية الإبادة التي تقتضيها مثل هذه الفكرة مقتبسة بالضرورة -بشخصيات أبطالها (الاسرائيليون، الشعب المختار، العرق المتفوق) وميراثها (الحق السماوي أو الحضاري) وأهدافها (الاستيلاء على أرض الغير واقتلاعه جسدياً وثقافياً). إنها فكرة إسرائيل التاريخية. وهو نفس الاعتقاد بأن هناك قدراً خاصاً بأمريكا وان الأمريكيين هم الإسرائيليون الجدد و«الشعب المختار» إنه نفس خطابات التدشين التي يلقيها الرؤساء الأمريكيون: ومنها «إرادة الله، القدر، حتمية التاريخ، القدر المتجلي في هذه الأمة، الاختيار الإلهي».
وسوف تمضي اسرائيل المعاصرة الآن، في جريمة هي أبشع ما يمكن أن ترتكب في هذا العصر، بل إنها تستوحي الفكرة الأمريكية، وهي «استبدال شعب بشعب».
وسوف تمضي في إبادة ما لديها من بشر على أرضهم، أما هؤلاء القابعون في المخيمات، فالحدود موصودة أمامهم ولن يتمتعوا حتى بحلم العودة. لقد قطع «شارون» بعد عودته مباشرة من مؤتمر «العقبة» الذي رعاه الرئيس الأمريكي «بوش» وحضره الملك الأردني «عبدالله» ورئيس الوزراء الفلسطيني «أبومازن» قطع على نفسه عهدا ألا يعود إلى الأراضي المحتلة فلسطيني واحد من الذين في خارجها. وهذا هو الدرس الذي يجب أن تعيه كل البلاد العربية، وأن تضعه في مقدمة أي حلول سلمية لتسوية القضية الفلسطينية الاسرائيلية. السلام يعني بالدرجة الأولى عودة أهل البلاد. أهل الدار لديارهم.ولتشابه الحالين، سوف استعيد معكم هذا النشيد لمايكل هولي ايغل أحد نشطاء الهنود 1996 نقلا عن «منير العكش» لعله يقرع ذاكرة كل عربي وكل فلسطيني يقول:
«تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين. ويا الله ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها، وسيواجهها الفلسطينيون. إن جلادنا المقدس واحد».
وهذا الذي جرى «لأبي الخيزران» الفلسطيني في رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني «حين تفجرت جهنم أمامه وهو يركض مع عدد من المسلحين، فسقط على وجهه» ويتذكر ذلك المشهد الكريه:
«مرت عشر سنوات على اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته منه، ولقد عاش هذا الذل يوماً وراء يوم وساعة اثر ساعة، وضعه مع كبريائه، وافتقده كل لحظة من لحظات هذه السنوات العشر، ورغم ذلك فإنه لم يعتده قط.. عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته، وضاع الوطن، وتباً.. لكل شيء في هذا الكون الملعون....».
|