وكنت قرأت للشاعر علي العنزي قصائد قليلة في «الجزيرة» وعلى ذلك فهو صاحب تجربة شعرية، وليس الذي يجرب فنه الشعري لأول مرة، وسنرى ماذا يعالج في قصيدته هذه.
والقصيدة من البحر الوافر «مفاعلتن مفاعلتن فعولن» في كل شطر وهو بحر عنيف في موسيقاه الإيقاعية الرنانة، ويسهل النظم عليه.
والإنسان مسئول عن حواسه وحتى عن قلبه قال تعالى: {وّلا تّقًفٍ مّا لّيًسّ لّكّ بٌهٌ عٌلًمِ إنَّ السَّمًعّ وّالًبّصّرّ وّالًفٍؤّادّ كٍلٍَ أٍوًلّئٌكّ كّانّ عّنًهٍ مّسًئٍولاْ }
وقول الشاعر: «كن فؤادي» يذكر بشاعرنا العظيم أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي عندما خاطب قلبه قائلاً:
حَبَبْتُكَ قَلْبي قَبْل حُبِّكَ مَنْ نَأَى
وَقَدْ كَانَ غَدَّاراً فَكُنّ أَنْتَ وَافِيَا
وَأعْلَمُ أَنَّ البَيْنَ يُشْجيكَ بَعْدَهُ
فَلَسْتَ فُؤَادِي إنْ رَأيتْكَ شَاكِيا
فإنَّ دُمُوعَ العَيْنِ غُدْرٌ بِرَبِّهَا
إِذَا كُنَّ إثر الَغَادِرِينَ جَوَارِيَا
وباختصار هذه الأبيات من قصيدة مطلعها:
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى المَوْتَ شَافيَا
وَحَسْبُ المنَايَا أَنْ يكُنَّ أَمَانِيَا
تَمنَّيْتَها لَمَّا تَمنّيْتَ أَنْ تَرَى
صَدِيقاً فأعْيَا أَوْ عَدُوَّاً مُدَاجِيَا
وهي في مدح كافور الإخشيدي بعد أن رحل ابو الطيب عن سيف الدولة إلا أن قلبه يحنّ إليه (سيف الدولة) وهو يلومه (قلبه) على ذلك. وإلى أبيات قصيدة الشاعر العنزي:
1 أَجِبْ عَنِّي فَقْد صَعُبَ السُّؤَالُ
هَلِ اللَّيْلُ الطَّويلُ بِهِ وِصَالُ
وأنا يسرني استعمال الأساليب الإنشائية دون الخبرية في الشعر فعنوان القصيدة أمر ومطلعها أمر واستفهام. وهذا يستحسن في الشعر ويطلب.
«أجب عني فقد صعب السؤال» ويظهر أن الشاعر يختبر في مادة الرياضيات في امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة، وصعب عليه السؤال ويريد من يجيب نيابة عنه (غش) ولعلك أحضرت معك بعض البراشيم.
«هل الليل الطويل به وصالُ» ويظهر أنه ليل الشتاء الطويل البارد والشاعر أكثرَ من الشاي والقهوة مما منع عن عينيه الكرى والوسن والنوم والرقاد، ويسأل إن كان في الليل وصال فلو قلنا. مع مَنْ هذا الوصال؟ وما فائدة الاجابة لو قيل لك نعم، دون حضور المطلوب وصاله؟ نريد لسان الحال لا لسان المقال.
وبالمناسبة فهل حرف استفهام هي والهمزة، وبقية أدوات الاستفهام أسماء، وهل يُسأل بها عن مضمون الجملة مثل: هل أكرمت جارك؟ بينما الهمزة يسأل بها عن مضمون الجملة مثل: أحضرٍ أخوك، كما يُستفهم بها عن التعيين مثل: أراكباً جئت أم ماشياً، وقد يُستغنى عن الهمزة في الاستفهام قال الأخطل (غياث بن غوث التغلبي):
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ
غَلَسَ الظَّلامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاً
أي أكذبتك عينك. وواسط بلدة في العراق بناها الحجاج متوسطة بين الكوفة والبصرة فسميت واسط. وعند التعيين تستعمل أم لا أو:
مثال: وَمَا أَدْرِي وَلَسْتُ إخَالُ أَدْرِي
أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وأعود إلى البيت فأطلب من الشاعر ان يعتمد على نفسه في الإجابة ولا ينتظر من ينوب عنه، وعليه أن يجتهد كثيراً. قبل التقدم للامتحان فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. وعلينا جميعاً أن نستعد للسؤال الأصعب يوم القيامة. ففي الحديث الشريف: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به».
2 وهل عَزَمَ المُحِبُّ عَلَى رَحِيلٍ
وَظَنَّ بأن لَيْلاهُ خَيَالُ
وذكر الرحيل في الشعر الحديث محاكاة لشعر الأسفار الذي كان يبدأ به شعرنا القديم. وعلى فِكْرة الشاعر ضيَّعَنا فنحن نعرف أن الذي يرحل المحبوب والشاعر المحِب يبكي على رحيله وهنا نجد المُحِبَّ والمُحَبَّ راحلين. أم أن قيساً راحل بعد أن أصبحت ليلاه خيالا، والخيال موجود بوجود العُود، والخيال حاله حال العُود: «فَلاَ يَسْتَقِيمُ الظِّلُّ والعُودُ أَعْوَجُ»، أن ليلاه خيال أي مُتَخَيّل في الفكر.
بعدين: هل يرحل لمجرد الظَّن؟ في الحديث الشريف: «إياكم والظن فإن الظّن أكذبُ الحديث» والقاعدة الشرعية تقول: «اليقين لا يزول بالشك». فالتروّي والتمُّهل والانتظار مطلوبة قبلُ.
3 سَتَدْمَعُ عَيْنُها دَهْراً طويلاً
وَيَعْزِفُ نَايَها صَمْتاً جِبَالُ
وهنا النرجسية بأجلى صورها فهذا الشاعر متأكد من أنها ستدمع عيناها لأجل عينيه دهراً طويلاً. قال الراحل نزار قباني:
وَتَجُوبُ بِحَاراً وبِحَارَا
وَتَسيلُ دُمُوعُكَ أنَهارُا
وَسَيَكْبُرُ حُبُّكَ حَتَّى
يُصْبِحَ أشْجَارَا
ولو نثرنا الشطر الثاني من البيت: ويعزف جبالٌ نايَها صمتاً ولله في خلقه شئون ونحن ما دَخْلُنا؟ تعزف الجبال صمتاً أم صراخاً؟ ناياً أم طبلاً. لكن: يعزف جبال: الأفضل تعزف الجبال لأن جمع التكسير يؤنث غالباً فنقول: الجبال عالية أو عاليات. وبالمناسبة فكل الجموع مؤنثة، قال مَنْ قال:
إنَّ قَوْمِي تَجمَّعُوا
وَبحَرْبي تَشَبَّثُوا
لاَ أُبَالِي بِجَمْعِهِمْ
كَلُّ جَمْعٍ مَؤَنَّثُ
والناي قصبة مجوفة مثقبة يسمونها ببلاد الشام عامة «الشبَّابة» وأذكر من أشهر عازفيها الفنان «محمود عفت» (مصري).
وغنت فيروز من شعر جبران خليل جبران:
أعطني الناي وغَنِّ
فَالْغِنَا سِرُّ الوُجُودْ
وَأَنيِنُ النَّايِ يَبْقَى
بَعْدَ أنْ يفنَى الْوُجُودْ
وغنت الراحلة أم كلثوم:
والنّايْ على الشَّطِّ غَنَّى وِالقُلُوبْ بِتْمْيلْ
عَلَى هُبُوبِ الْهَواَ لَمَّا يِمُرَّ عَلِيل
4 وَيْذَبُلُ حُسْنُها.. مَن قال إنَّ ال
جَمالَ يَدُومُ إنْ مَاتَ الرِّجَالُ
وهذه نرجسية أخرى.. تتوقع ذبول جَمالها بدونك. ثم الغرور بادٍ وظاهر والاعتزاز واضح: «الرجال»، وذكَّرْتَنِي بجورج سيدهم: أنت رجل والرجال قليل». سرقها (جورج) من السموءل بن عادياء بعد أنْ حرّف بيته المشهور:
تُعَيِّرُنا أَنَّا قلِيلٌ عَدِيْدُنا
فَقُلْتُ لَهَا: إن الكِرَامَ قَليِلُ
وماضرَّنَا أَنَّا قَليِلٌ وَجَارُنَا
عَزيزٌ وَجَارُ الأكثرِينَ ذَليلُ
وملاحظة هامة: النساء يعترفن أن الجمال بدون رجَال، أو بدون أحباب على الأقل الرجولة فوق وأقوى من الحب وخرابيطه لا فائدة منه.
قالت المطربة «الكبيرة» نجاة «الصغيرة» من شعر نزار قباني أيضاً:
لِمَنْ صِبَايَ لِمَنْ؟ شَالُ الحَرِيرَ لِمَنْ؟
ضَفائِريِ مُنذُ أعْوَامٍ أَربِّيهَا
إرْجِعْ فَبَعْدك لاعِقْدٌ أُعَلِّقُهُ
وَلاَ لَمَسْتُ عُطُوري في أوَانِيَها
إرْجِعٌ كما أنت صَحْوَاً كُنْتَ أَمْ مَطرَاً
فَمَا حَيَاتِي أَنَا إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا
نكتة: قالوا إن نزيلاً في فندق نسي مظلته في غرفته، فلما رجع ليأخذها وجد عريسين احتلاها احتلالاً وسمعهما يتحاوران. يقول: لمن هذان الخدان الورديان؟ فتقول: إلَك، ولمن هاتان الشفتان العنابيتان؟ إلَك.. فقال لهما: بالله إذا وصلتما إلى الشمسيّة فهي إِلِي.
5 سَأَلْتُكَ يَا فُؤَادِيْ كُنْ فُؤَادِي
وَحَاوِلْ أَنْ تُبَدِّدَ مَا يُقالُ
وكنت تعرضت إلى فؤاده في شرح العنوان، وأنا ألاحظ الأساليب الإنشائية فالبيت فيه أمران فعلا أمر وأُسَرّ بذلك. ولكن التبديد ليس هو المعنى الدقيق، ولعلّ التفنيد والتكذيب أقرب. ثم ما هذا الذي يقال؟ نصيحة: «اسمع وطنّش». والكلام لا ينتهي، قال جورج وَسُّوف: «كلام الناس لا بيقدم ولا يؤخر».. قلت: لكنه يوجع الرأس ويبعث الريبة وخاصة أن كثر الناس من هذه الفئة الذين :
إِنْ يَسْمَعُوا رٍيْبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحَاً
عَنِّي وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرتُ بِهِ
وَإنْ ذُكِرْتُ بِشَرّ عِنْدهُمْ أُذُنُ
قلت: أي أذن؟ أذن واحدة؟، كلهم آذان صاغية.
وما أحسن حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «وكره لكم قيل وقال، وَكثرة السؤال وإضاعة المال».
6 فَلَيْلُ الْعَاشِقِيْنَ عَلَيَّ عَارٌ
وَأَنْتَ غَرَامُكَ الواهِي غَزَالُ
ووالله ما أدري: ليل العاشقين عليك عار.. كيف؟ عار أن تسهره أم عار أن تكون عاشقا وكنّا قلنا إن العشق لا يتسق مع الرجولة. وأنت غرامك الواهي (الضعيف) غزال يعني ماذا؟ هل الغرام غزال؟ أم المغروم غزال.
قال عبادي الجوهر: يا غزال ياغزال فينه؟
وما رأيك بهذه الأبيات لأبي نواس عن الغزال وهي قصيدة عبارة عن مسألة رياضية جبرية تُحَلّ بمعادلة من الدرجة الأولى.. قال:
غَزَالٌ قَدْ غَزَا قَلْبِي
فمَا إنْ فيهِ مِنْ بَاقي
لَهُ الثُّلُثانِ مِنْ قَلْبِي
وُثْلثَا ثُلْثِهِ الباقي
وَثُلْثَا ثُلْثِ مَا يَبْقَى
وَثُلْثُ الثُّلْثِ لِلسَّاقي
وَتَبْقَى أَسْهُمٌ سِتٌّ
تُقسَّمُ بَيْنَ عُشّاقِ
والسؤال: ما نصيب العشاق؟
7 وإِنِّي لاَ أَمِيلُ إلَى جُنُونِي
فَلاَ يُقْنِعْكِ أَنَّ النَّاسَ مَالُوا
طبعا لا أحد يميل إلى جنونه ولا يصدق أنه مجنون ولو سئل عن عقله لقال إنه أعقل الناس، أما الناس فيفرحون بالمجنون ليسخروا منه ويتجمعوا حوله كما قال يحيى بن يعمر:
«ما لكم تكأكأتم عليَّ كتأكئكم على ذي جنّة؟ افرنقعوا عني»
وبالمناسبة كلٌّ راضٍ بعقله ولا أحد يرضى برزقه.
وبالنحوي.. قوله: (أن الناس مالوا): المصدر المؤول من أن واسمها وخبرها في محل رفع فاعل الفعل يقنعْكِ والكاف مفعول به
أما بعد.. فما عرفت ما الذي جاء بالجنون هنا، أهو جنون الهوى (والهوى مالوش دوا).
8 - سَأَرْحَلُ عَنْكَ يَا قَلْبِي المُعَنَّى
وَمَهْلاً غُرْبَتِي ثَمَّ ارْتِحَالُ
إلى أين سترحل؟ وإنما تفرُّ من قدر الله إلى قدر الله وإذا رحلت عن قلبك، فارحل عن عيونك سلامة عيونك وبعدها لا عين تشوف ولا قلب يحزن
(ومهلاً غربتي ثَمَّ ارتحالُ): ارتحال عن الغربة إلى غربة. ما رأيك بالآتي:
تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِي طَلَبِ العُلاَ
وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفارِ خَمْسُ فَوائدِ
فَتَفْرِيجُ هَم واكْتِسَابُ مَعِيِشَةٍ
وَعِلْمٌ وآدَابٌ وَصُحْبَةُ مَاجِدِ
ثَمَّ: ظرف مكان بمعنى هناك متعلق بمحذوف خبر مقدم
ارتحال: مبتدأ مؤخر. وابتُدِىءَ بالنكرة لأن الخبر ظرف.. قال ابن مالك:
وَلاَ يجوُزُ الابْتِدَا بالنَّكرِهْ
مَا لَمْ تُفِدْ كَعِنْد زَيْدٍ نَمِرَهْ
والنمرة هي السجّادة. مهلاً: نائب عن المفعول المطلق مصدر نائب عن فعله
9 تَسيرُ بِيَ الأَمَانِي حَالِماتٍ
وتَرْمِي وَاقِعِي غَدْرَاً نِبَالُ
واذا سرت وراء أمانيك فلن تخلص، ولكن اعمل بنصيحة من قال: «من تأنّى نال ما تَمَنّى» ولا تشتطَّ في الأماني التي لا يمكن تحقيقها واجعل أمانيك على قدّ الحال
(وترمي واقعي غدراً نِبال) وهذا ما قلناه فالواقع الله اعلم بالحال وهو غرض للنبال، ورحم الله أبا الطيب:
رَمَانِي الدَّهْرُ بالأَرْزَاءِ حَتَّى
فُؤَادِي في غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ
فَكُنْتُ إذَا أَصَابَتْنِيِ سِهَامٌ
تَكَسَّرَتِ النِّصالُ عَلَى النِّصَالِ
وأنا أَرى لك رأياً خلينا واقعيين حاول تحسين واقعك ودافع عنه ضد من يصوبون عليه النبال واترك الأماني وأحلام اليقظة لأنها سراب
10 وَأُصْغي للِنَّجُومِ بغيْرِ سَمْعٍ
لأَنَّ سَمَاءهَا لَيْسَتْ تُطَالُ
والإصغاء للنجوم يكون بالنظر لا بالسمع والمسرور يفرح بها كقول بشار:
لَيْلَتيِ هذِهِ عَرُوسٌ مِنَ الزَّنْ
جِ عَلَيْهَا قَلاَئِدٌ مِنْ جُمانِ
فالنجوم هنا قلائدٍ من فضة على عروس زنجية (سوداء).
وأما الحزين فيراها دموعاً. شدا الراحل فريد الأطرش:
نُجُومِ اللِّيْلُ دُمُوعْ تِبْكِي
عَلَى حُبِّي وِآمالِي
سَوَادِ الليل سُطُوْرْ تِحْكِي
عَذَابِي وانْشِغَالْ بَالِي
أما أن سماء النجوم لاَ تُطال، فالأَقرب منها لا يطال:
11 فَأَسْبَحُ في مَتَاهَاتِي كَأَنِّيْ
غَرِيقٌ تَزْدَري فِيهِ الحِبَالُ
وانتقلنا من النجوم في السماء إلى الغرق بدون حبال تنتشل الغِريق، لكن تزدري فيه لا داعي لِ(فيه) ويكفي تزدريه.
ومتاهاتك دعْك منها وكن واقعياً. ولا تكن مثل حال الغريق:
أَلْقَاهُ في اليَمِّ مَكْتَوفَاً وَقَالَ لَهُ:
إِيَّاك إِيَّاكَ أَنْ تَبْتّلَّ بِالْمَاءِ
كأني غريق: هذا تشبيه ذُكرت فيه أداة التشبيه فهو مرسل وحذف وجه الشبه فهو مجمل فالتشبيه مرسل مجمل:
المتاهة اسم مكان من تاه.
12 ظَمِئْتُ وَكُدْتُ أَشْرَبُ مِلْحَ صَبْري
فَإِذْ بِالَمْوجِ فَيَ أَرْضِيِ رِمَالُ
ويا صاحبي قد يضطر الإنسان أن يشرب ماء على القذى حتى لا يظمأ كما قال بشار:
إذَا أَنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَاراً عَلَى الْقَذَى
ظَمِئْتَ وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مٌشَارِبُهْ
أما أن تشرب الملح ليطفىء الظمأ فلن يزيدك إلا عَطَشا:
يَانَديْمَ الوِدهِ خَيِّمْ للِرَّشَا
لُمْ يَزِدْنِي الْوِرْدُ إلاَّ عَطَشَا
ولا بأس ببيتين بعده للطّرافة: (تلاعب بالألفاظ)
قُوْلُهُ قَوْلِي وَقَوْلي قَوْلُهُ
إن يَشَا شِئْتُ وإنْ شِئْتُ يَشَا
رُوْحُهُ رُوحِيْ وَرُوْحِي رُوْحُهُ
إنّ عَشَا عِشْتُ وَإنْ عِشْتُ عَشَا
(عشا: عاش) وهذا يسمى القَلْب.
13 أَأَضْحِكُ؟ إنْ ضَحِكْتُ سَيِقْتُلُوني
وَأُصْبِحُ عَاشَقاً فيهِ خَبَالُ
14 أأبكي؟ إنْ بكيَتُ سَيَلعَنُونِي
وتَلبَسُنِي السَّفَاهَةُ والضَّلالُ
وأرى ألا تضحك إلا في مناسبة الضحك حتى لايقتلوك وألا تبكي الا في مأتم أو مناسبة حزن.
ثٍمَّ الجّحٌيمّ صّلٍَوهٍ (31) ثٍمَّ فٌي سٌلًسٌلّةُ ذّرًعٍهّا سّبًعٍونّ ذٌرّاعْا فّاسًلٍكٍوهٍ (32)} مما استدعى ضربه. وعَلى كلٍّ فلكل مقام مقال.
ثم البكاء للحزن والضحك للفرح وليس كما غِنَّت فيروز:
يَبْكِي وَيَضْحَكُ لاَ حُزْناً وَلا فَرَحَا
كَعَاشِقٍ خَطَّ سَطْراً في الهَوَى وَمَحَا
ثم عودة إلى البيت: إن بكيت سيلعنوني، وإن ضحكت سيقتلوني..
ملاحظتان:
الأولى: لابد من اقتران الفاء بجواب الشرط اذا اتصل جواب الشرط بالسين أو سوف. ومواضع اقتران الفاء بجواب الشرط مجموعة في هذا البيت:
إِسْمِيَّةٌ طَلَبيَّهٌ وَبِجَامِدٍ
وَبِما وِقَدْ وَبلَنْ وَ بالتَّنْفيسِ (بالتْسْويف)
أي إذا كان الخبر:
- جمله اسمية: مثل من يجتهد فهو ناجح
- طلبية (أمر أو نهي أو استفهام: من يجتهد فأكرموه، من يجتهد فلا تهملوه، من يجتهد فهل تكرمونه؟)..
- وجامد: نعم وبئس وليس وعسى:
من يجتهد فنعم طالباً
من يكسل فبئس الطالب
ومن يجتهد فعسى ان ينجح
ومن يهمل فليس بناجح
وبما: من يجتهد فما قصر.
وقد: من يجتهد فقد أحْسَنَ
وبلن: من يجتهد فلن يضيع جهده
وبالتنفيس: التسويف بالسين وسوف من يجتهد فسينجح، فسوف ينجح.
وعلى ذلك كان على الشاعر ان يقول فسيقتلوني، فسيلعنوني.
والملاحظة الثانية سيقتلوني، سيلعنوني: الأصل سيقتلونني وسيلعنونني النون الأولى علامةُ رفع الأفعال الخمسة، والنون الثانية نون الوقاية تقي الفعل من الكسر وقد حذف الشاعر نون الوقاية تخفيفا وهذا جائز.
15 سَأُرْسِلُ للطُّيورِ عَتَابَ رُوحِي
حَرَامٌ تَرْكُهَا لِي أَمْ حَلالُ
يعني أن الطيور تركتك، وحرام أم حلال؟ اعرض القضية على من يفتيك.
حرام أم حلال: الأصل أحرام أم حلال، وحذفت همزة الاستفهام وهذا جائز كما مَرَّ معنا.
أما المرحوم امير الشعراء أحمد شوقي فقد وضع الهمزة.. قال:
أَحَرامٌ عَلى بَلابلهِ الدَّوْ
حُ حَلالٌ للِطَّيْرِ مِنْ كٌلِّ جِنْسِ
كُلُّ دَارٍ أَحَقُّ بالأهْلِ إلاّ
فِي خَبيثٍ مِنَ المَذَاهِبِ رِجْسِ
وهو مَذْهَبُ الاستعمار البغيض. والبيتان من قصيدة مطلعها:
إخْتلاَفُ النَّهَارِ واللَّيْلِ يُنْسي
أُذكُرا لي الصِّبَا وأيَّامَ أُنْسِى
..وَسَلا مِصْرَ هَلْ سَلاَ الْقَلْبَ عَنْهَا
أَمْ أَسَا جُرْحَهَا الزَّمانُ المؤَسِّي
قالها شوقي في منفاه في إسبانيا (الأندلس):
16 أُنَاديهَا فَتَرحَلُ عَنْ سَمَائِي
وَيَأسِرُهَا مَعَ الآفَاقِ آلُ
ينادي الطيور فترحل وهذا هو الطبيعي إلا الطيور التي تربيها أنت أو الصقور التي تعلمها.
والآل هو السَّراب: قال الأعشى:
قَدْ تَعَلَّلْتُهَا عَلَى نَكَظِ المَيْ
ِط وَقَدْ خبَّ لامِعَاتُ الآلِ
ولمن يشرح هذا البيت جائزة.
17 وَتَغْرُب شَمْسُ يَوْمٍ كُلَّ يَوْمٍ
وَغُرَّةُ كُلِّ أشْهُرِنَا هِلاَلُ
تحصيل حاصل:
مَنَعُ البَقَاءَ تَقَلُّبُ الشَّمْسِ
وَطُلُوعُها مِنْ حَيْثُ لا تُمْسِي
اليَوْمَ أَعْلَمُ مَا يَجيءُ بِهِ
وَمَضَى بِفَصْلِ قَضَائِهِ أَمْسِ
وهذا شاهد على أن (أمسِ) مبنية على الكسر. وهاكم شاهداً على (أمس) ممنوعة من الصرف:
لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسَا
عَجَائِزاَ مِثْلَ السَّعَالَى خَمْسَا
يَأْكُلْنَ مَا في رَحْلِهِنَّ هَمْسَا
لاَ تُرَكَ اللهُ لَهُنَّ ضِرْسَا
والشاهد (مُذْ أمسَا) أصلها أمسَ والألف للاطلاق.
وَغُرَّةُ كُلَّ أَشْْهُرِنَا هِلاَلُ
الزّعيم يستاهل
18 إذَنْ قُلْ للْملِيحَةِ أَنْ صليني
فُوَصْلُ حبيبتي أَمْرٌ مُحَال
ولا بأس من الواسطة في هذا المجال لكنك قطعت خط الرجعة (مُحَال). (قلْ للمليحة في الخمار الأسود)
أنْ صليني هذه أَنْ المخففة من أَنَّ واسمُها ضمير الشأن محذوف.
أما بعد فقد عانيت يعلم الله ما عانيت وأحرقْتُ فسفور مُخّي بمعالجة القصيدة والظاهر أنها رمزية متعوب عليها وأكثر المعاني الواضحة فيها غير مقصودة مما يدل على قدرة الشاعر على الترميز أما نحن ولا فخر فنحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
ثم ترابط الأبيات يحتاج إلى فهم خاص فقد قال عمر بن لجأ ناقد قديم لشاعر: أنا أقول البيت واخاه وأنت تقول البيت وابن عمه. وشاعرنا الأستاذ علي يقول البيت وابن جيرانه.
على ذكر حرق الفسفور فقد سمعت الراحل عبدالوهاب يروي في مقابلة - عن شوقي أمير الشعراء انه عندما كان يسير معه وتقريباً الساعة السادسة مساء احد الأيام وليس وقت غداء ولا عشاء الايام دخل الى مطعم ثم طلب من (النادل) الجرسون ست بيضات كسرها واحدة واحدة وشربها ولما سأله عبدالوهاب عن السبب قال إنه يعوض ما يحرق من فسفور مخه. أعرض هذا على الأطباء بلا تعليق.