(1)
* «أيها العقلُ مَنْ رآك..؟»
** هكذا تساءل«عبد الله القصيمي» -غفر اللهُ له-.. ولم يُجبْ.. ولم نعبأْ باستفهامه«بدءاً».. ولم نفتّش عن إجابته«منتهى»..!
** لم تكن مشكلة جيلنا البحث في«ماهيّة العقل».. أو«كينونتِه».. فلهذا باحثون لديهم موهبةُ«الإبحار» في المسافات«المعتمة» .. وربما رسموا«خّطاً».. أو أمسكوا«خيطاً» .. لتبقى دهاليز«الماورائيات» «أنفاقاً» تقود إلى أنفاق..!
** آثر جيلُنا «الهدوء» .. وأثراه «التوازن» .. وارتحل في الفضاءِ «الحر» /«المقّيد» /..المتصل /المنفصل../الموجه والمنطلق..!
(2)
** عرف جيلُنا معنى «التسامح».. وأدرك -بالممارسة- مدلولات دعوة«فولتير» (1694- 1778):
* ليسامحْ بعضُنا بعضاً حتى على«جنونِهم»..
* وحفظنا عنه عبارته الشهيرة..
*«..أخالفك في كلّ كلمة تقولها.. ولكني أضع رقبتي دفاعاً عن حقّك في الإيمان بها وإعلانها..»
** وقبله كان شيخ الإسلام ابن تيمية (542 - 620هـ) قد حلّل كل من آذاه من المسلمين وقال لأتباعه:
*«..إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله.. فإن كان الحق لي فهم في حل.. وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني فلا تستفتوني، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه كما يشاء ومتى يشاء..»
(3)
** كان جيلُنا.. أو أغلبُه.. ذا مزاجٍ«قرائي» معتدل.. وكان أساتذتُنا - في مراحل التعليم العام- يقتربون منا.. أو كنا نقتربُ منهم بمقدار ما تتفق«توجهاتُنا» القرائية مع«توجيهاتهم»..
** وكنا.. إذا تفوق بعضُنا.. نكافأُ بالكتب.. لم نعرف الهدايا «العينية» فلم تشغلنا «ألعابٌ» عادية أو إلكترونية.. وليس أمامنا - من أجل الترفيه- سوى «المذياع» أو القناة التلفزيونية الوحيدة.. وإذا قدِّر للقلة فينا السفر إلى «المنطقة الشرقية» فإن حديثه -حين يعود- سيتمحورُ حول الدهشة التي صادفها في القنوات المتعددة التي رأى فيها ما لا يُرى من «أغانٍ» و«أفلام» و«مسلسلات»..!
** لم يكن السهر مباحاً.. أو متاحاً.. وكنا -بعد الانصراف من صلاة العشاء في المسجد- نقف قليلاً مع«أولاد الجيران» لأحاديثَ عابرةٍ لا تتجاوز موضوعاتُها الدراسة والمدرسين..
** لم نعرف«الكرة» -كما يعرفها أبناؤُنا-..ويكفي المشجع فينا أن يقرأ - إذا شاء- تحليلات الصحف حول المباريات.. وكان الانتماء للأندية«المحلية» أو«الإقليمية» أكثر منه للأندية الكبيرة في «الرياض» و«جدة»..!
** عشناهُ زمناً رتيباً.. هادئاً.. نرافق آباءنا إلى «السوق».. و«النزهة» .. و«الأصدقاء».. وتعلمنا«صغاراً» أحاديث«الكبار».. فنأينا كباراً عن أحاديث الصغار.. وانصرفنا إلى التحصيل العلمي «الرسمي» و«الحر».. وخرج فينا كثيرون لم يلههم «الشعير» فتعلقوا «بالشعر»..!
(4)
** تتكامل هذه الأربعاوية مع أربعاويتي (الأسئلة) و(التناقض).. لتنثر بضع إشارات نحو جيلٍ لم يجد أمامه ما يشغله عن أن يكون قارئاً.. وأن تتكون ثقافتُه المعرفيّة ضمن أُطُرٍ متسامحةٍ.. وأحياناً متناقضة..!
** كان أساتذةُ جلينا يوجهون نحو الثقافة «التأصيلية» أو «الجادة» التي تتدرج من «جواهر الأدب».. و«شبهات حول الإسلام».. و«ظلال القرآن».. و«عبقريات العقاد».. و«هامش السيرة».. و«وحي القلم». . و«بعض كتب التراث».. دون أن يُدخلوه في متاهات«الأدلجة»..!
** وكان الجو«المنزلي» يأذنُ لبعضنا أن يقرأ روايات «إحسان عبد القدوس» و«يوسف السباعي».. وتحولات «خالد محمد خالد» و«مصطفى محمود».. وتجاوزات «عبد الله القصيم» و« صادق جلال العظم».... ورفض «مظفر» و«نزار»..واستطاع لذلك أن يفهم أفكار«الإخوان» و«التحريريين» و«القوميين» و«الشيوعيين».. و«التقليدين» و«الحداثيين».. دون أن يعني ذلك -بالضرورة- أن يعتنق أو يعتقد بآرائهم..!
** قادتْ (جيله) هذه الأجواءُ المفتوحة ليعيش تجربةً فكريةً فريدة.. فقد أُذن له أن يُحاور في كل الاتجاهات والتوجهات دون أن «يُصنّف» أو«يقمع» .. ورأى كل القضايا قابلةً للطرح.. فلم يتردد في سؤال أو مداخلة.. وكان معلموه حريصين على الاستماع إليه والأخذ منه والرد عليه.. وله -مثلهم- حق الاختلاف والتعقيب.. دون أن يكون لأي نوايا «الاختلاق» أو «التأليب»..!
(5)
** عاش جيلُنا حريّة فكريّة «منضبطة».. فتكون وعيُه بعيداً عن ضغوط«الأحاديّة» يفرضُها رأي«شخصي».. أو توجه«إعلامي».. أو جوٌ«تسلطي»..!
** وتابع في المدارس والمركز الصيفيو«الأندية الرياضية» محاضرات لرموز«معرفية» مؤثرة - وإن تفاوتتْ- من أمثال: «محمد العثيمين / محمد عبده يماني /غازي القصيبي/ محمد محمود الصواف/ سعيد حوى / عبد الرحمن الدوسري» وسواهم..
** أتيح لنا حوار مع«الآخر» فكان لدينا«مدرسون» أجانب (غير عرب وغير مسلمين).. وفي«عنيزة» -على سبيل المثال- عرف جيلنا «بريطانياً» يدرس اللغة الإنجليزية في المرحلة «الثانوية».. وكان يفتح باب بيته لمن شاء زيارتَه (ومعظمهم من طلاّبه وأصدقائهم).. وربما حامت شكوك لدى «البعض» في دور مستتر له إلا أن الصوت«الأعلى» كان للإفادة منه والنقاش معه..!
** هكذا عاش جيلُنا.. فلم يكمل المرحلة الثانوية حتى كان قادراً على الفهم والتفاهم.. والقراءة والكتابة.. والبحث والاستقراء.. وأضحى مُهيَّأً للبحث عن الاختلاف.. والتسامحِ أمام الخلاف.. واليقين بحق الجميع في إبداء آرائهم.. والدفاع عنها.. ليس من كل فريق لرأيه.. بل من الكل لأجل الكل.. فافترقنا..وظللنا أصدقاء..!
(6)
** أفرزتْ هذه البيئةُ «المنفتحة» و«المتسامحةُ» جيلاً «وسطيّاً» لم ينهزمْ «فكرياً» .. وإن عاش (ولا يزال) داخل الهزائم «السياسية» و«العسكرية» و«النفسية»، واستطاع - رغم السقوط المدوّي لكثير من«الأيديولوجيات» التي ربما اقتنع ببعضها زمناً.. ونافح عن بعضها زمناً- أن يعيش تحولاتٍ هادئةً، وعبر به تأسيسُه الواعي مرحلة «المحاكمة» و«الحكم» و«التنفيذ» لصوغِ مفاهيم جديدة تحمل قدرة «التأهيل» وعُمق«التأصيل».. وندرتْ في هذا الجيل ظاهرة الانتكاسات «العقلية».. والعنف «المذهبيّ»..والتعصب «الفكري» .. وأعان بعضَه اطلاعٌ على ثقافاتٍ أخرى.. وهو ما لم يحظَ بكثير منه الجيلُ الذي تلاه..مِمّنْ دخل «طائعاً أو مجبراً» في دوائر «الإغلاق» و«الشك» و«الصراع».!
(7)
**ربما كان جيلُنا هو أكثر الأجيال حظوظاً في توسطِه واعتداله.. فلم «ينغلق» ولم «يندلق».. ولم يُعانِ من صدمةٍ ثقافيّة حين اتصل «بالغرب» ولم ينكفئْ على «ذاتِه» عندما فقد ثقته «بالعرب»..!
**ورغم أنه عانى من الهزائم المتصلة التي ابتدأت قبل أمسه.. واستمرت حتى يومه.. فإنه لم«يساوم» ولم«يُصادم».. وظل مؤمناً بإمكانات«مُبشِّرةٍ» قد يُفرج عنها ذات بعث..!
* لم «يصنّم» مفكريه مثلما لم «يُقزِّمْهم»، ورأى في التياراتِ المتعارضة علامة نضج ودليل عافية فآمن بما شاء، وآمن سواه بما شاء، واتفقا على دلالات «الثوابت» «النصية» «القطعية».. واختلفا فيما وراءها.. ولم يخفرا وداً لبعضهما، وظلت «الشلة» أو«الثُلَّةُ» تركيباًَ «مزجياً» يجمعُ كل الألوان دون تنافرٍ أو تشويه..!
(8)
** توارى الصوت الهادئ /المتسامح /الواثق ضمن أصوات «الاعتدال» الأخرى التي انكفأتْ على نفسها.. واكتفت«بالفرجة» على غيرها.. ثم ازدادتْ عزلتها بعد«حادثة الحرم» التي تعد الحدّ الفاصل بين«صورتين».. ومن يشأ رصد ظاهرة«التبدل الفكريّ» في بلادنا فإن«عام 1400هـ» نقطة تحول أولى..وغزو الكويت نقطة تحول ثانية.. والعدوان على العراق نقطة تحول ثالثة..!
(9)
** ربما جاز لنا -بعد هذا الاستعراضِ السريع- إدراك معنى«التشظِّي» الثقافي الذي يعاني منه جيل «الثمانينيات» «الميلادية» المولود داخل بُؤر الصِّراع.. المحكوم بمساقاتٍ «حركيّة» دفعتْه إلى مناطق تيه، ونطاقاتِ انقسام.. فوُجدت داخل التيار الواحد عدة تفرعات.. وامتلأت الأذهان الناشئة بمضاداتٍ «هشة» تحجب الحقيقة دون أن تستطيع مواجهتها..!
** هكذا تأثرت كل الأجيال - بمن فيها جيلنا-«بالغياب» القسري لفكرِ الاختلاف.. فتصدرت رؤية.. وسيطر توجه.. ونمت في الظل نباتاتٌ «متسلقة»، وأعشاب «شائكة»، وشجيرات حنظليّة رسمت «خارطة» جديدة لفكر الجدب وجدب الفكر.. وهو ما ضاعف الإحساس بالهزيمة.. ومما يحتاجُ إلى حكايةٍ أخرى..
* أيُّها العقلُ مَنْ ألغاك..؟
|