Tuesday 17th june,2003 11219العدد الثلاثاء 17 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الإصلاح السياسي بين (الديمقراطي).. و(الثيوقراطي).. ! 1/3 الإصلاح السياسي بين (الديمقراطي).. و(الثيوقراطي).. ! 1/3
د.حسن بن فهد الهويمل

الهدف الأسمى لهذه المقولة لملمة أشتات الرؤى والتصورات التي يدرك بها البعض ليل السياسة العربية الضاغط، بغية الوصول بها إلى صيغة سياسية انتقائية أو توفيقية أو تلفيقية، تحقق المقتضى الإسلامي، بوصفه إرادة شعبية، وتمكن من امتصاص نسغ التجارب الأخرى، وتواكب المتغيرات الإيجابية، وتخلص الأمة العربية الممتحنة من خطابات مغثية، يخوض بها المتسطحون على الأحداث. ومتى تحقق المقتضى الإسلامي في الحكم، على أي شكل من أشكال السياسة، وعبر أي نظام متداول في المشهد القائم، تحقق معه: العدل، والمساواة، والحقوق، والمشاركة، والنهوض بمتطلبات العصر. فالإسلام كفل للإنسان على الأرض، وللطائر في السماء، وللسمك في الماء، ولكل أمة من الأمم التي لا يعلمها إلا الله حياة تناسب وجود أي كائن {وّمّا مٌن دّابَّةُ فٌي الأّرًضٌ وّلا طّائٌرُ يّطٌيرٍ بٌجّنّاحّيًهٌ إلاَّ أٍمّمِ أّمًثّالٍكٍم}. ومتى استدبرت أمة الإسلام مقتضياته، وركضت وراء بوارق الأنظمة القائمة في الشرق أو في الغرب، فوتت على نفسها فرصاً كثيرة. والإخفاقات التي تتعرض لها المؤسسات السياسية المنتمية للفكر السياسي الإسلامي عبر التاريخ إن هي إلا إخفاقات تطبيق، والعلاج لا يكون بنفي المبدأ، وإنما يكون بتمثله حقيقة لا ادعاء. ف«الديمقراطية» التي تشكل الأنموذج المعشوق شكل سياسي ناجح في الغرب، وهو المهيمن على كل التطلعات. ولقد هُدهِد العالم الثالث على سرابياته ولما تزل دعوى الكاذب، ومطلب المغلوب، وحجة الثائر، وكل الأطراف تعرف استحالة التمثل الكامل لها، لأن طبائع الشعوب وحضاراتها المتجذرة في الواقع وفي أعماق النفوس لا يتأتى في ظلها الإحلال البديل، ومن جهلها أو تجاهلها غرق في متاهاتها. وما من أمة إلا خلت فيها أشياؤها: الحسية والمعنوية، وتجذرت، حتى لايمكن القضاء عليها بسهولة، أو الاستغناء عنها بيسر. فالأمم والشعوب تقوم على مبادئ وأعراف وشرائع: وضعية أو سماوية، عرفية أو أبوية، {إنَّا وّجّدًنّا آبّاءّنّا عّلّى" أٍمَّةُ} هذه السوائد توارثوها جيلاً عن جيل، وأصبحت جزءاً من التاريخ ولبنة من بنائه. والصيرورة الكلية الفورية إلى أي نظام طارئ مهما كانت مشروعيته أو معقوليته من المستحيلات. فأين المبادئ والأحزاب والأنظمة المبتسرة التي أنفق الثوريون في سبيل تكريسها خبز الجائعين وألحفة المقرورين وأحذية الحافين، وروّي بدمائهم صعيدهم الطيب؟. إن هم الإصلاح الرفيق يختلف عن جناية الاستبدال المستشيط، والتجمد والنمطية والخوف من التحرف للأفضل مؤشر جهل بطبيعة الحياة المتجددة، وإعجاب بالرأي وبالذات. وواجب المنظرين والمنفذين ان يراعوا الأحوال، والإمكانيات، والسوائد، ورغبات الشعوب، بحيث لايكرهون الناس على أن يكونوا كما يريدون.. وأحد أنبياء (الديمقراطية) كما يسميه (أدوار بيرنز) (يذهب إلى أنها نظام في الحكم لا يصلح لجميع الشعوب). ذلك أن لكل أمة إرادة صائبة أو خاطئة، والبراعة في تصويب هذه الإرادة، دون إثارة. والشعوب الإسلامية كافة لا ترضى بالإسلام بديلاً، واستكانتها أمام المبدلين استكانة العاجز المتربص. ولهذا فكل انتخاب حر نزيه صحيح يفوز به الإسلاميون، حصل ذلك في (تركيا) وفي (الجزائر) وسيحصل في كل بلد إسلامي يمارس الانتخاب الحر النزيه. وإذا أخفق المشروع الإسلامي، فليست العلة في ذات المشروع ، ولكنها في الممارسة التطبيقية، وفي فعل الوصوليين الذين يخادعون الله، وهو خادعهم {وّيّمًكٍرٍونّ وّيّمًكٍرٍ اللّهٍ وّاللَّهٍ خّيًرٍ المّاكٌرٌينّ } .
وكل دولة مستبدة تدعي أن نظامها الأفضل، وأن شعبها أسعد الشعوب، والدول النامية هي الأكثر ادعاء، والأكثر نقداً وتلاحياً فيما بينها، والأقل فعلاً وتفعيلاً لمؤسساتها الشكلية. والدول (الديمقراطية) حقاً، لاتتحدث عن ممارساتها التطبيقية، ولا تتقحم مآزق المفاضلة والتصدير، ولكنها تترجم مقتضيات النظام عملاً، يكفل للمواطن الاستقرار والثقة والاطمئنان والحياة الكريمة. و(الديمقراطية) التي يلوكها كل لسان، ويدعيها كل نظام، تختلف من خطاب لآخر، والناس معها مقل ومكثر، تكون إجراء صرفاً، وتكون إجراءً و(أيديولوجية). فهناك (ديمقراطية) شرقية، وأخرى غربية، وهناك أنظمة وأنماط رديفة للمفهوم (الديمقراطي)، تفرضها (أيديولوجيات) متفاوتة، قد تحد من الحرية المطلقة للأمة. وواجب النخب المتصدرة، ان تفرق بين المدلولات، ذلك أن الخلط بين المفاهيم مظنة التعثر. والخطاب السياسي، وبخاصة الشورى، لايميز، أو لايريد أن يميز بين مفهوم (الديمقراطية) و(الحرية). والعالم بأسره مر بنظريات سياسية، صلحت لمرحلة أو لأمة، ولكنها لم تكن صالحة في زمن آخر، ولا في مكان آخر، ولا لأمة أخرى، ونظرية الإحلال الفوري مغامرة محكومة بالفشل الذريع، والناس جميعهم عيال على المطارحات (الميكافيلية)، وان تسللوا لواذاً متقنعين ب(الديمقراطية) التي بلغت أوجها في القرن العشرين، وتناولها (بيرنز) في كتابه (النظريات السياسية في العالم المعاصر) من خلال فرضية سماها (أنبياء العهد الذهبي) واستهل حديثه بتأزيم المصطلح، فهو الأكثر غموضاً وإبهاماً، بحيث يستوعب جميع أنواع المعاني لدى الناس جميعاً، والمصطلح حينما لايكون جامعاً مانعاً، لايكون مصطلحاً.
وحين تمر الدولة بحالة ضاغطة: داخلياً أو خارجياً، تعيد النظر في نظامها أو في تربيتها، وتحاول التحول من مفهوم لآخر، لتلافي مثل هذه الحالة، ولكن البعض لايعدو كلامه حد القول. والدول الثورية أكثر ادعاء، لأنها تبرر ثورتها بغياب (الديمقراطية) أو بخيانة الوطن، والقادمون أكثر تغيباً وأكثر خيانة. وحين يلوح أي نظام بالإصلاح، يدب ذوو البيات الشتوي من جحورهم، معلنين أو ملوحين، بما ينطوون عليه من رؤى وتصورات، فيكون العلماني الشمولي المتطرف، والعلماني التنظيمي المعتدل، والإسلامي الموغل بعنف أو برفق، والحزبي التنظيمي أو (الأيديولوجي) أو الأصولي المتعنت، وتلتطم الآراء، ثم يدب الخوف والخلاف، ويفضل العقلاء ما هم عليه، خوفاً على البلاد والعباد من لعبة قاصمة، أو مؤامرة قاضية. وكل من يدعي التغيير المطلق يفقد المصداقية، فالدساتير لايمكن ان تنكس رأساً على عقب، والإصلاح المرحلي المتدرج هو الحل الأمثل. والدول الحكيمة هي التي تتعامل مع شعوبها برفق، وهي التي تمشي الهوينا على طريق الإصلاح، شأنها شأن العلاج أو اللقاح الجديد، لايعمم إلا بعد تجربة جزئية محدودة، مصحوبة بمراقبة وحذر وتقويم.
والعالم الثالث لما يزل يمر بحالة من التعدد والارتباك والتجريب، فهناك حكومة الحزب، وحكومة الطائفة، وحكومة العرق، وحكومة القطر، وقد يمتد اسم الدولة ليكون سطراً، بينما الحاكم بأمره كلمة ناقصة، وكل هذه الأشكال تقوم على فتن نائمة، واستكانة الشعوب استكانة المتحين، فأي ظرف استثنائي قد يفجر الواقع، ومن ثم تدخل الأمة في حرب أهلية دموية، تهدد الاستقرار والأمن، ومن لم يؤمن، فلينظر إلى من حوله من دول تلعب بها أعاصير الفتن، وتعصف بها الحزبيات والطائفيات والعرقيات، مهيئة الأجواء للمجاعة والخوف والأوبئة والتدخل الأجنبي بدعوى تحرير البلاد وإيقاف نزيفه. والمذكرات والاعترافات واللقاءات عبر الكتب والصحف والمحطات تكشف عن سيئات الحكومات المتعاقبة، ومن أصاخ إلى فلول الحكومات في المنافي والملاجئ يصاب بالغثيان، وبحمدالله أن نجا بدينه وعرضه ومثمنات بلده، ومثل هذه الحكومات: إما أن تكون (دكتاتورية) متحزبة، أو (دموية) متعلمنة، أو أنها تجمع بين السيئتين، أو أنها إسلامية الشعارات لا الشعائر، وقلما تكون (قوية عادلة). والقوة والعدل تكون في الغالب منتج السياسة (الثيوقراطية)، ومن ثم لا تتحققان في ظل التعددية: الطائفية أو الدينية. والمتابع لايقف على ضابط يقيس به ما يواجهه من خطابات، ذلك أن مسألة العالم الثالث مفتوحة على كل الاحتمالات، والأصوليون يقولون: (الاحتمال لايقوم به الاستدلال). ولقد تمر الدولة بحالة من الاستقرار، ثم تصاب بنكسة مدمرة، ثم لا يكون للحالين معيار دقيق. وكل الأنظمة التي تعيش على الصدف، ولا تعول على المؤسسات والثوابت، تكون عرضة للفراغ الدستوري القاتل، ولهذا يؤدي غياب الحاكم لأي سبب إلى فتنة عمياء.
والإصلاح المتزن لا تأتي به طفرة هوجاء، ولا ثورة دموية عمياء، ولا يحققه الخروج على الحكومة الشرعية، ولا يجلبه التدخل الأجنبي، و(الديمقراطية) لا تصدر، ولا تفرض بقوة السلاح، إنها حضارة وفكر و(أيديولوجية) تكون في البدء بذرة، ثم تنشق عنها الأذهان، فتتفتق، ثم تصبح وارفة الظلال. وما لم تتهيأ الأمة لتقبلها، تتحول إلى فساد كبير. وما فوته الثوريون على أمتهم باسم (الديمقراطية) أو القومية أو الوحدة أو الحزبية لا يقدر بثمن. وكل دولة قائمة تستطيع أن تمارس الإصلاح المرحلي، وأن تتحول أشياؤها من النقص إلى التمام، وذلك فرض عين، وبخاصة من القادرين على استكمال ماينقص، والتحول المرحلي المؤسساتي هو الطريق القاصد، ولابد ان يسبق ذلك بالتوعية لا بالدعاية. فالتوعية مهمة، لأن الأمة الواعية لا تقع تحت طائلة التآمر والدسائس. والسمة النظامية ليست مهمة، ولا حتى الهيكلة والشكليات، وإنما المهم النتائج. وإشكالية الخطاب الثوري أنه ظل واقفاً عند السمة، فهو مثلاً ضد (النظام الملكي)، لمجرد أنه مغاير للسمة (الجمهورية)، وكلا النظامين بوصفهما سمة لا قيمة لهما، القيمة في الأداء والممارسة والنتائج. و(الديمقراطية) دعوى الخطاب الثوري الإعلامي، يتغنى بها، ولكنه لايحقق أدناها، فكأنه خطاب شعري، يقول ما لا يفعل، ولا يلحق به إلا الغوات من الغوغاء، ولما يزل الخطاب في تقلب مستمر، فيما لم تتم المكاشفة والمراجعة، فالذين يدعون (الديمقراطية) ماذا حققوا من مقتضياتها؟ والذين ينقمون على سائر الأنظمة، بماذا يدلون؟. والمد الثوري جعل شيطانه الأكبر منبع (الديمقراطية) الحقة، مع تغنيه بها. والقادمون بها على مطايا الفرقاطات والراجمات، لو مكنوا الشعوب منها، وأخضعوا الحكام لها، لكانوا أولى قرابينها. إن الأمة مغلوبة على فكرها قبل أن تكون مغلوبة على أمرها، وغلبة الفكر أن تظل في الوهم، وأن تظل النخب في انتظار القادم، لتقول مايقول، وكأنه (حذام).
وإشكالية المبادئ والمشاريع تعدد الأقنعة ووحدة الوجوه. والرصد التاريخي للخطاب (الديمقراطي)، يحيل إلى مفاهيم جديدة، تخطت ربط مصدرية السلطات بالشعب إلى أشياء أخرى، كالمساواة والحرية، علماً بأن مثل ذلك من طرائق الحياة (الديمقراطية) أو قل من نتائجها، فالرجوع إلى الشعب يعني التوفر على الحرية والمساواة.
وأياً ما كان الأمر فإن العالم العربي يعيش حالة من الارتباك والتردد والتناقض، والبوادر لاتبشر بخير، ولاسيما أنه مغلوب على أمره، محكوم بحاجته التي لم يستطع التوفر عليها أو الاستغناء عنها، ومع كل هذه التحذيرات فإنني لست متشائماً، ولست متحفظاً على أي محاولة تجديدية، ولست مشيداً بأي ممارسة، ما لم ألمس نتائجها ماثلة في الطبيعة، ولست متمسكاً بالسوائد ولا مؤمناً بمقولة: (ماترك الأول للآخر شيئاً).

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved