كثيراً ما يجلس الكاتب إلى مكتبه ويمسك بقلمه ليسطر أفكاره ويدون آراءه فيستعصي عليه باب الكلام وتجدب أفكاره فلا يذكر ما يكتب ولا يدري ما يصنع. فيبقى صامتاً ساكناً شارد الذهن والبال. وليست هذه العلة خاصة بالناشئين والمبتدئين من الكتاب بل انها تعتري فطاحل الأدباء وفحول الشعراء.
وقد كان الشاعر جرير إذا أراد ان ينظم بعض قصائده أجدب فكره فلم يستطع ان يقول بيتاً واحداً فيقصد ناقته فيمتطيها ميمماً دار أحبته ليقف على اطلال الدار ويرى مواقد النار ويشاهد بقية الآثار فتعود به الذاكرة إلى أيام سالفة وأعوام غابرة.
ثم يعود وقد هاجت قريحته وتفتحت شاعريته.
وقد كان الكاتب المصري ابراهيم المازني يعنون مقاله فتنأى به الأفكار عنه، لذلك كثيرا ما كان عنوانه لايدل على كلامه وأخيراً أخذ يجعل العنوان هو آخر ما يكتب.
وقد أشار الدكتور طه حسين إلى ما يقع فيه المازني حينما أراد ان يكتب عن (الملاح التائه) قال:
ولكن ماذا؟ يظهر ان سلطان المازني عظيم، وان التخلص من عدواه ليس بالشيء اليسير فقد بدأت هذا الحديث بعنوان ولم أصل بعد إلى هذا العنوان وإنما أدور حول الموضوع استغفر الله. بل أنا أدور بعيداً عن الموضوع دون ان أدنو منه فضلا عن أن أصل إليه ولو أني جاريت نفسي ومضيت أملي ما تمر بها من الخواطر لقلدت المازني تقليداً تاماً ولأتممت هذا الفصل قبل ان أبلغ الملاح التائه) وهذا دليل على ان الكتابة ليست بالشيء السهل اليسير وإنما تحتاج إلى الجلد والصبر المرير، والمران عليها والجلوس إليها، وتحتاج أيضا إلى تخمير الفكرة وبلورتها أولا والتعود على الكتابة دائما حتى يسهل على الكاتب استحضار الأفكار.
|