يكثر ورود مصطلح (جاهلية القرن العشرين) على ألسنة فئة من المتحدثين والكتاب وهو يدل في نظرهم على أن المجتمع وقع في درجة كبيرة من الانحراف عن دين الله حتى أصبح أشبه بفترة الجاهلية التي بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأهلها.
ومع كل أسف فإن من ارتكب بعض الجرائم الأمنية باسم الدين يبني ذلك على أننا في مجتمع جاهلي والعياذ بالله.
وقد بين أهل العلم ان هذا المصطلح منافٍ للواقع؛ وقبل ذلك منافٍ للشرع الإسلامي الحنيف؛ إذ انه لا جاهلية عامة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كما ان الواقع يكذب هذا المصطلح ويعريه فالعالم الإسلامي كبير والمسلمون بحمد الله في تكاثر وإن وجدت بعض مظاهر النقص لدى المسلمين في بعض مسائل الدين أو السلوك فليس ذلك مسوغاً لأن ينشر هذا المصطلح الخطير.
وممن تنبه لهذا المصطلح وخطورته بعض أهل العلم الكبار وعلى رأسهم العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية فرع خدمة السنة وهو عالم كبير في الحديث والدين الذي له فتوى مهمة في هذا المجال نقلها العلامة الدكتور بكر بن عبدالله ابو زيد عضو هيئة كبار العلماء ورئيس مجمع الفقه الإسلامي بمكة وعضو اللجنة الدائمة للافتاء وقد أورد الشيخ بكر أبوزيد هذه الفتوى في كتابه معجم المناهي اللفظية وهو كتاب يتحدث عن بعض الكلمات والمصطلحات والألفاظ التي يحرم التلفظ بها شرعاً وذلك في الطبعة الثالثة من الكتاب (من ص212 إلى 214). حيث قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
فليس «الجامع» من أسماء الله تعالى فيمتنع إطلاقه والتعبيد به فلا يقال: عبدالجامع.
الجان:يأتي في: عبدالجان.
جاهلية القرن العشرين:
بين العلامة الألباني ما في هذا التعبير من تَسَمَّح، وغضِّ من ظهور الإسلام على الدين كله.
فجاء في كتاب: «حياة الألباني» ما نصه: مصطلح «جاهلية القرن العشرين» في نظر الألباني:
السؤال: تناول الداعية «سيد قطب» -رحمه الله- مصطلحاً متداولاً بكثرة في إحدى المدارس الإسلامية التي يمثلها ألا وهو مصطلح «جاهلية القرن العشرين» فما مدى الدقة والصواب في هذه العبارة؟ وما مدى التقائها مع الجاهلية القديمة وفقاً لتصوركم؟
فأجاب العلامة الألباني:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن ولاه وبعد: الذي أراه أن هذه الكلمة «جاهلية القرن العشرين» لاتخلو من مبالغة في وصف القرن الحالي، القرن العشرين، فوجود الدين الإسلامي في هذا القرن، وإن كان قد دخل فيه ما ليس منه يمنعنا من القول بأن هذا القرن يمثل جاهلية كالجاهلية الأولى إن كان المعني بها العرب فقط فهم كانوا وثنيين وكانوا في ضلال مبين، وإن كان المعني بها ما كان حول العرب من أديان كاليهودية والنصرانية فهي أديان محرفة، فلم يبق في ذلك الزمان دين خالص منزه عن التغيير والتبديل، فلاشك في أن وصف الجاهلية على ذلك العهد وصف صحيح، وليس الأمر كذلك في قرننا هذا ما دام ان الله تبارك وتعالى قد من على العرب أولا ثم على سائر الناس ثانياً، بأن أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأنزل عليه دين الإسلام، وهو خاتم الأديان، وتعهد الله عز وجل بحفظ شريعته هذه بقوله عز وجل: {إنَّا نّحًنٍ نّزَّلًنّا الذٌَكًرّ وّإنَّا لّهٍ لّحّافٌظٍونّ} ونبيه صلى الله عليه وسلم قد أخبر ان الأمة الإسلامية وإن كان سيصيبها شيء من الانحراف الذي أصاب الأمم من قبلهم في مثل قوله صلى الله عليه وسلم «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: من هم يارسول الله؟ اليهود والنصارى؟ فقال عليه الصلاة والسلام فمن الناس؟!» أقول: وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهذا الخبر المفيد ان المسلمين سينحرفون إلى حد كبير ويقلدون اليهود والنصارى في ذلك الانحراف، لكن عليه الصلاة والسلام في الوقت نفسه قد بشر أتباعه بأنهم سيبقون على خطه الذي رسمه لهم، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث التفرقة: «وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة»، قال عليه الصلاة والسلام: «كلها في النار إلا واحدة»، قالوا: ماهي يارسول الله؟ قال: «هي الجماعة» وفي رواية قال: «هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي».
وأكد ذلك عليه الصلاة والسلام في قوله في الحديث المتفق عليه بين الشيخين: «لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله». فإذن لا تزال في هذه الأمة جماعة مباركة طيبة قائمة على هدي الكتاب والسنة، فهي أبعد ما تكون عن الجاهلية القديمة أو الحديثة، ولذلك فإن الذي أراه: ان إطلاق الجاهلية على القرن العشرين فيه تسامح، قد يوهم الناس بأن الإسلام كله قد انحرف عن التوحيد وعن الإخلاص في عبادة الله عز وجل انحرافا كلياً، فصار هذا القرن -القرن العشرون- كقرن الجاهلية الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اخراجه من الظلمات إلى النور حينئذ، هذا الاستعمال أو هذا الإطلاق يحسن تقييده في الكفار أولا، الذين كما قال تعالى في شأنهم: {قّاتٌلٍوا الّذٌينّ لا يٍؤًمٌنٍونّ بٌاللَّهٌ و بٌالًيّوًمٌ الآخٌرٌ وّلا يٍحّرٌَمٍونّ مّا حّرَّمّ اللّهٍ وّرّسٍولٍهٍ وّلا يّدٌينٍونّ دٌينّ الحّقٌَ مٌنّ الّذٌينّ أٍوتٍوا الكٌتّابّ حّتَّى" يٍعًطٍوا الجٌزًيّةّ عّن يّدُ وّهٍمً صّاغٌرٍونّ }.وصف القرن العشرين بالجاهلية إنما ينطبق على غير المسلمين الذين لم يتبعوا الكتاب والنسة، ففي هذا الإطلاق إيهام بأنه لم يبق في المسلمين خير، وهذا خلاف ما سبق بيانه من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام المبشرة ببقاء طائفة من الأمة على الحق، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الإسلام بدأ غريباً ويعود غريباً فطوبى للغرباء.. قالوا: من هم يارسول الله؟» جاء الحديث على روايات عدة في بعضها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم واصفاً الغرباء: «هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي»، وفي رواية أخرى قال عليه الصلاة والسلام: «هم أناس قليلون صالحون بين أناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» فلذلك لا يجوز هذا الإطلاق في العصر الحاضر على القرن كله؛ لأن فيه -والحمدلله- بقية طيبة لاتزال على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى سنته، وستظل كذلك حتى تقوم الساعة، ثم إن في كلام سيد قطب -رحمه الله- وفي بعض تصانيفه مما يشعر الباحث أنه كان قد أصابه شيء من التحمس الزائد للإسلام في سبيل توضيحه للناس. ولعل عذره في ذلك أنه كان يكتب بلغة أدبية، ففي بعض المسائل الفقهية كحديثه عن حق العمال في كتابه: «العدالة الاجتماعية» أخذ يكتب بالتوحيد، وبعبارات كلها قوية تحيي في نفوس المؤمنين الثقة بدينهم وإيمانهم، فهو من هذ الخلفية في الواقع قد جدد دعوة الإسلام في قلوب الشباب، وإن كنا نلمس أحياناً ان له بعض الكلمات تدل على أنه لم يساعده وقته على أن يحرر فكره من بعض المسائل التي كان يكتب حولها أو يتحدث فيها، فخلاصة القول: إن إطلاق هذه الكلمة في العصر الحاضر لايخلو من شيء من المبالغة التي تدعو إلى هضم حق الطائفة المنصورة، وهذا ما عنَّ في البال.
|