* بغداد د. حميد عبدالله:
مع توالي تداعيات انهيار نظام صدام، ثقيلة، مفاجئة، متنوعة، شديدة الوطأة على المواطن العراقي، تتقدمها القضايا المعيشية الأكثر قسوة وحضوراً في حياته اليومية، فإن عينيه لا تكفان اليوم عن ملاحقة هذا الكم الهائل من الصحف التي تصدرها الأحزاب والحركات والمنظمات السياسية في مختلف الاتجاهات الدينية والقومية واليسارية وغيرها، وبأسماء تحرص على أن تتضمن مفردات مثل، الوطنية، الديمقراطية، الشعب، الاستقلال.. الخ.
وفي حين كان هذا المواطن قد عود نفسه على قراءة بضع صحف يومية كان يسميها (جرائد النسخة الواحدة) والمتميزة بنشر صور ثابتة للرئيس المنهار، وخطبه وفكره ووصاياه وأخباره ومواضيع ذات منحى متكرر، فإنه اليوم يحار في اختيار ما يقرأ، بل ان الحيرة تزداد عندما يمد في جيبه لدفع الثمن المرتفع لواحدة من هذه الصحف، وهو القاسم المشترك بينها، والمفارقة هنا ان اغلبها توزع مجاناً في مقرات الأحزاب والحركات التي تصدرها.
وتنداح ذاكرة الصحفي عبدالرحمن عناد من إحدى الصحف الرسمية السابقة الى ما كانوا يتلقونه من (توجيهات إعلامية) كما كانت تسمى، تصل إلى حد التدخل في استخدام المفردة، ولعل آخرها قبل سقوط النظام، وعند بداية الحرب في 20/3 وهو استخدام مصطلح (معركة الحواسم) حيث كانت ترد المؤسسات الإعلامية هذه التوجيهات مطبوعة، وبعضها على شكل محاضر لاجتماعات يومية لوزير الإعلام السابق محمد سعيد الصحاف مع رؤساء التحرير، ويجري التبليغ ببعضها من خلال رؤساء التحرير أنفسهم ويتذكر الصحفي ذاته ما ينقله لهم رئيس تحريرهم هاني وهيب من تفاصيل لا تتضمنها التوجيهات الإعلامية المطبوعة، ومن ضمنها كلمات لا تتناسب ولقاءات بهذا المستوى حيث عرف عن هذا الوزير استخدامه لكلمات اكثر بذاءة مما كان يستخدمه في إيجازاته للصحفيين خلال الحرب كالعلوج والمطايا والطراطير والأنذال، ليدخل في مجال المفردات العامية السوقية بل ان لؤي مجيد الذي يتولى رئاسة التحرير وكالة في الجريدة لعدة اشهر كان ينقل لعدد من زملائه في هيئة التحرير بعضاً مما يدور، وكأنما هو مشهد في مقهى شعبي، ولا يبز السيد الوزير فيه أحد بكلمات الشتم والسب، خاصة فيما يتعلق بكوندا ليزارايس حين يرد ذكرها!!
وفي واقع الأمر فإن العشرات من العراقيين يكتفون بالوقوف طويلاً امام أكشاك وباعة الارصفة لقراءة العناوين وبعض التفاصيل بدلاً من شراء نسخ مرتفعة الأثمان. وسرعان ما تتحول هذه القراءة الى محور للأحاديث والمناقشات في الشوارع والباصات والمقاهي، والكل يطرح فهمه الخاص لما قرأ ولشد ما يتباين هذا الفهم من واحد لآخر حد الاختلاف الجذري.
ورغم هذا لابد من الاعتراف بأن العراقي قارىء نهم ومتابع ولا يكف عن المقارنة بين هذه الجريدة وتلك، وقد قال لي أحدهم انه حرص على جمع العدد الاول من كل جريدة صدرت، وهذا يعبر عن الاهتمام والتوثيق ودقة الرصد.
والسؤال الذي يطرحه الكثيرون ليس المقارنة بين صحف النظام المتشابهة التي توقفت، وما يصدر حالياً، لكن السؤال يدور حول مستقبل الصحافة في العراق على المدى المستقبلي، ونجد لهذا التساؤل إجابات كثيرة، ومتنوعة، وحسب مصدر الإجابة.
في الوسط الصحفي ذاته، يرى الكثيرون، ومثلهم مواطنون، ان ذلك يمثل حالة صحية، بعد قسر محدود في مجالات النشر، وان المثل الصيني (دع ألف زهرة تتفتح).
يصح هذا كبداية. واذا ما كانت المنافسة مبدأ تجاريا معروفاً، فإنها في المجال الصحفي لا تخفي حدتها، خاصة وانها تشكل (صناعة ثقيلة) لها مستلزماتها ومتطلباتها التي لا يقدر عليها الكثيرون وان (فورة) إصدار الصحف قد تكون قابلة للانطفاء التدريجي تاركة المجال لمطبوعات معروفة من بينها تلك التي لها تاريخها وإمكاناتها وضرورات مواصلة إصدارها، خاصة وان ممولي إصدار بعض هذه الصحف هم من أصحاب الرساميل الذين يخضع تحركهم الاستثماري لمبدأ (الجدوى الاقتصادية) والمعتمد أساسا على الإعلانات وهي مفقودة حالياً بسبب توقف المؤسسات الرسمية والأسواق التجارية المعروفة والمكاتب والشركات عن أعمالها والإعلان عنها، إضافة الى عوامل الجذب المعروفة الأخرى، كالألوان وصور النساء والأجندة والمواضيع ذات القدرة على شد القارىء كمعاودة العمل واستلام الرواتب وإعادة الماء والكهرباء والاتصالات والخدمات الصحية وتوفير وسائط النقل وقبلها توفير الأمن.
وينظر صحفي له خبرته هو (شامل عبدالقادر) الى ما تعج به أغلب هذه الصحف من أخطاء لغوية وأسلوبية لا يكن القبول بها في أي مطبوع متوسط المستوى، وكأن القائمين على تحريرها ليسوا من هذا الوسط، أو أنها تفتقر الى لغوي أو مصحح يعالج ما تسطره أقلام كتابها.
|