صحونا فوجدنا أنفسنا على ظهر موجة عاتية تتقاذفنا في لجة بحر هائج فلا هي تأخذنا صوب الشاطىء لنمسك بر الأمان، ولا هي تدفعنا الى القاع لنصبح نسياً منسياً.
* صحونا فوجدنا الناس وقد تغيرت سحناتهم، واختلفت لهجاتهم عما كانت عليه قبل أسابيع، وجدنا البعض مدججاً بالحقد ومشحونا بالثأر ومعبأ بروح الانتقام ووجدنا البعض الآخر جائعاً للشتم ومهووسا باللطم والكل حبالى بشحنات ظلت حبيسة المرجل وهو يغلي لأكثر من ثلاثين عاما من غير أن يجرؤ أحد على تنفيسه، وما أن تراخت الأيدي التي أحكمت إغلاق تلك المتنفسات حتى بان كل شيء على حقيقته.. فاختلط العويل بالهتاف وامتزج الدمع بالدم، وتفاعل الثأر مع الغضب واجتمعت الملائكة مع الشياطين، وصرنا أمام كوميديا مفجعة وفاجعة مضحكة، نضحك ونحن في غمرة الأسى، ونتأسى ونحن في نشوة الفرح، لا ندري من المخطىء بيننا ومن المصيب، من الثائر ومن المتخاذل، لا نميز بين الدم المسفوح من أجل الوطن، والدم المراق لإذلاله واغتصابه، بل لا نفرق بين المحرر والمحتل.
* صار عبدة (هُبَل) الذين ناموا ليلتهم وهم يسبحون بحمده يشتمونه في الصباح، أما الذين يلهجون باسمه فإنهم كانوا في الخفاء يهيئون قواميس الهجاء وينتقون منها أبذأ وأقذع الألفاظ لينعتوا بها (ربهم) بعد أن تيقنوا أنه سقط وهان.
* وفي كلتا الحالتين المدح والشتم لم يكونوا مكرهين، فهبل كان يغري الناس بعبادته، ويغدق على من يتطرف ويبالغ بمدحه، ويرفع شأن من يتصوف به لكنه في الوقت نفسه لم يمسك السوط على من صمتوا تعففاً، ولم يشهر السيف على من أنفوا الاستجداء والتكسب، ولم يخصص سجونه وزنزاناته لمن وقفوا على التل متفرجين، أو لمن رفضوا أن يلوثوا أقلامهم بالمديح الفج، ولم يدنسوا ألسنتهم بالنباح.
* نعم.. لقد مدح أحدهم (هُبَل) حد الكفر عندما قال فيه (ووجهك مثل وجه الله ينضحُ بالجلال)، وعندما حان وقت القصاص أفتى (هبل) بعدم جواز إقامة مجلس العزاء على روح ذلك الشاعر ولم يشفع كل ما قاله في (الرب) من حسن الكلام وفصيح القول، فهل كان ذلك الشاعر مجبراً على أن يكفر بمدح (معبوده) أم أنه كفر بمحض إرادته، بل كان يطلب الصفح والمغفرة مشفوعتين بما تجود به يد (المعبود) من عطايا؟!
* لا أُصدق من يقول إنني كنت مجبراً على تمجيد الصنم، ولن أُصدق من يدعي أن المدح كان واجباً على كل مواطن قادر عليه، وإنه قانون لا يجوز انتهاكه كذلك لن أُصدق من يجادل بأن الشتيمة ظلت حبيسة الصدور لسنوات وقد آن الأوان ليفرج عنها.. أقول هذا وأنا على يقين أن المخاض الذي يمر به العراق اليوم لو أنجب (هُبلاً) آخر لتسابقنا للتقرب إليه زلفى ولتصوفنا به من جديد، لا خوفاً من ناره بل طمعاً بجنته.
* المفجع حقاً أننا نسينا العراق في غرفة الإنعاش وانشغلنا بفضائح عدي، تركنا جراحات العراق تنزف وانهمكنا بنبش القبور، أخذتنا النشوة بزوال الكابوس دون أن نتهيأ للوقاية من كابوس قادم.
* كنا عطاشى للشتم فارتوينا، وجياعا للقدح فشبعنا، وكنا بعد طول انتظار قد استرحنا.. أعطينا لكل شيء ما يستحق فمتى نعطي للعراق حقه؟
( * ) أكاديمي وصحفي عراقي
|