حوار مع القمر..
بدأت في انتظار موعدي مع القمر.. حينما أخذت الشمس في توديع هذا العالم.. اغمضت عينيها بين أحضان الشفق.. وأرسلت آخر إيماءة توديع.. على أمل لقاء.. وبدأ الليل يلف المدينة.. ويكتنفها بردائه الاسود.. وترصع الرداء بعيون الليل.. وضحك بابتسامة القمر رفيق الاحبة على دروب الهوى.. وكان لقاء بعد موعد.. لقاء رشحته الدموع.. ومزقته الكآبة. ففي تلك الليالي الصافية تتبادل الناس كلمات المنى.. وترسل ضحكات عجلى.. من بعد شقاء.. تعانق العيون الفضية.. وترقص بنشوة الفرح مع الرداء.. حيث الناس هكذا هناك فوق الرمال الذهبية.. يتسامرون مع الحب.. مع النجوم.. مع الاشعة المتكسرة على تعرجات الرمال.. وانا هنا من بعد هذا اللقاء أسامر أدمعي التي تبلل منها رداء الليل.. وانعكست على قطراتها أشعة النجوم.. وأضواء القمر.. نعم لقد انطوت مشاعري في زاوية ضيقة من الهدوء.. هدوء الوحشة أحس فيه وكأنني في وادي الموت أكابد احتضاري لاودع بني قومي.. وداع الرحيل الى غياهب القبور والتمزق بين أكناف الصمت الابدي.
ويسألني البعض عمّا حدث في هذا اللقاء حتى مزقتني التعاسة من بعدها! فأجيب انه حوار دار بيني وبين رفيق سهرتي «القمر» حوار تجلت فيه كل معاني الصراحة والجرأة.. وفي حوار الصراحة تظهر الحقيقة لتصفع الطرف المهزوم.. وترفع الطرف المنتصر.. وهذا ما كان حيث كنت أنا الطرف المهزوم.. والقمر هو المنتصر.. ولذا بكيت لان الصفعة بحرارتها استطاعت أن تسيل الدموع.. وما الحقيقة الا بعبع للبشرية.
ولا تحرجني عزيزي القارىء بطلبك اياي أن أعيد لك ذلك الحديث فقد تبخر عن ذاكرتي الا صبابة منه قليلة.. ولكن يكفي بأن أقول لك بأن القمر تحدث إلي وكأنه طفل من مواليد قصور التعاسة والشقاء يخاطب هذا العالم وسبابته في فمه.. وعيونه مخضلة بالدموع في خطابه ثورة وغضب.. وسخرية واستهزاء.. وعمق للاهانة بغير حق ولا واجب «ولكن لا حياة لمن تخاطب».
أذكر من حديثه لي قوله حينما سألته:
- ألا تغفر لنا أيها القمر الطيب؟
- لم أعد أفرق بين المغفرة.. والانتقام.. كل ما أحسه هو زخامة الرذيلة وهي تنغرس في كل ذرة من ترابي.. قل لي متى كانت الرذيلة وأصحابها يصعدون إلى الاعالي.. لقد عهدناهم يسقطون إلى سافل سافلين وما عهدناهم كذلك.. كيف أفرق بين المغفرة والانتقام وأنا لا أستطيع أن أرى خصمي.. بل هو فوق ظهري.. لقد كنت أراه بأشعتي على كوكبه الارضي وهو ينسج خيوط الرذيلة تحت جنح الظلام فكنت أفضحه وأكشف كل أسراره.
أما الآن فقد عرف أين يختبىء.. وكيف يتخلص مني ومن فضيحتي.. فكيف أستطيع المغفرة وأين أنا من الانتقام؟
- لا تسألني أرجوك.. فلم أعد أعرف أين أنا.. وكيف سأصبح أنا، هل أنا رذيل.. لا.. هل أنا وحش.. لا وألف لا.. ولكنني في حظيرة أولئك.. فأين المفر؟!!
وعندها استيقظت الشمس على حرارة وقع الحوار.. وفتحت جفنيها من خلال الافق.. وطبع الفجر قبلة الوداع على وجنة الليل.. فذهب كل منا إلى حيث الراحة والهدوء.
|