جدار طويل، رأيته يقف شامخاً يكاد يسدُّ الأفق، لم يكن مبنيّاً بمادة من مواد البناء المعروفة عند البشر، وإنما كان مبنياً بلبنات عجيبات مختلفات الأحجام والألوان، وهي برغم اختلافها تشكل جداراً ذا تناسٍق عجيب، وما كان ذلك الجدار ليسمح لعيني ناظرٍ أن ترى ما وراءه، ولكن نافذتين جميلتين فيه كانتا تتيحان لمن يستطيع الوصول إليهما أن يطل على ما وراء ذلك الجدار من العجائب والغرائب، وكيف لا يكون الجدار عجيباً وهو مبنيٌّ من الساعات والأيام والشهور والسنوات والقرون الماضيات؟، وكيف لا يكون ما وراءه من العجائب والغرائب، وهو عالم من القصص والأخبار والحكايات؟
لقد وقفت أمام ذلك الجدار الطويل أقلِّب النظر في بنائه العجيب، حتى إذا رأيت صقر الخيال يخفق بجناحيه، تعلَّقتُ بهما تعلُّق المشتاق لمعرفة تلك العوالم العجيبة، وأوصلني إلى إحدى النافذتين، وكان بينها وبين النافذة الأخرى جسر يسهل عبوره، فأطللتُ من أولاهما إطلالة الشَّفوف الذي لا يُشبع نهمَه إلا معرفة تغذي عقله، وعلمٌ يملأ صدره، ومنظرٌ بديع يُريح نظره.
وحينما أرسلت نظري لعقلي رائداً، وقعت عيناي على شيخ جليل يجلس على كرسي خشبي عتيق ووراءه جدار نقش عليه بخط عربي واضح: الشيح كمال الدين الدَّميري، صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى، وعندما أصغيت إليه سمعي، سمعته يقول: كان بين الأمير يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن صاحب بلاد المغرب وبين الأدفونش صاحب «طُليطلة» مكاتبات، فبعث الأدفونش رسولاً إلى الأمير يعقوب يتوعده ويتهدده ويطلب منه بعض الحصون، وكتب إليه رسالة من إنشاء وزيره العربي «ابن النَّجار وهي: باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض وصلَّى الله على السَّيِّد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح. أما بعد: فإنه لا يخفى على ذي ذهنٍ ثاقب ولا ذي عقلٍ لازب أنك أمير الملّة الحنيفية، كما أني أمير الملّة النصرانية، وقد علمت الآن ماعليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل والتكاسُل، وإهمالهم أمر الرَّعية وإخلادهم إلى الراحة والأمنيّة، وأنا أسومهم بحكم القهر وجلاءالدّيار، وأسبي الذراري وأمثِّل بالرجال، وأذيقهم عذاب الهون وشديدالنَّكال، ولا عُذْر لك في التخلُّف عن نُصْرتهم إذا أمكنتْك يَدُ القدرة، وساعدك من عساكرك وجنودك ذوو رأي وخبرة وأنتم تزعمون أنَّ الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحدٍ منكم، والآن خفَّف الله عنكم وعلم أنَّ فيكم ضعفاً رحمةً منه ومنا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحدٍ منا، لا تستطيعون دفاعاً ولا تملكون امتناعاً، وقد بلغنا عنك أنك أخذت في الاحتفال وأشرفتَ على ربوة القتال، وتماطل نفسك سنة بعد أخرى، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بوعد ربِّك، ثم قيل لي إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً، وها أنذا أقول لك ما فيه الراحة لك، فما عليك إلا أن تفي لنا بالعهود والمواثيق وتكثر لنا من الرهائن من جملة عبيدك ورجالك ترسلهم إلينا بالمراكب، وإلا جُزْتُ إليك بجملتي، فأقتلك في أعزّ الأماكن لديك، فلما وصل الكتاب إلى الأمير يعقوب مزَّقة وكتب على قطعة منه: ارجع إليهم، فلنأتينهم بجنودٍ لا قبل لهم بها، ولنخرجنَّهم منها أذلّة وهم صاغرون، الجواب ما ترى لا ما تسمع، ثم أمر بكتب الاستنفار واستدعى جيوش المسلمين من الأمصار، وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبته، فعبر فيه إلى الأندلس، ودخل بلاد الفرنج، فكسرهم كسرة شنيعة وعاد بغنائمهم.
ثم عرَّف الشيخ الدَّميري بالأمير يعقوب، فقال: هو متمسِّك بالشرع، يأمر بالمعروف، ويقيم الحدود حتى في أهل بيته كما يُقيمها في الناس أجمعين ونهى عن التعصب المذهبي وأمر الفقهاء أن تكون فتاواهم من الكتاب والسنّة الصحيحة وأن تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباط القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس. وأغمضت عينيَّ لأستوعب ما سمعت وما رأيت، وتسابق إلى ذهني صورٌ من واقع عالمنا الإسلامي اليوم، حضرت بإلحاح لتكون صورة من صور القياس، بينها وبين حالة المسلمين في الأندلس التي وصفها الأدفونش بقوله: «وقد علمت ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل والتكاسل، وإهمالهم أمر الرَّعية، وإخلادهم إلى الراحة والأمنية وأنا أسوسهم بحكم القهر وجلاء الديار.. وأذيقهم عذاب الهون الشديد النكال».
ووقفت عند هذه الصورة أتساءل: هل عاد الأدفونش إلينا في هذا العصر بلغةٍ جديدةٍ وهيئة مناسبة لعصر الفضاء والذرَّة يتحدَّث باللهجة نفسها المفعمة بالغرور والكبرياء؟؟
وهل ستكون نهاية هذا الغرور الحديث موافقة لنهاية ذلك الغرور القديم؟؟
لن أجيب، ولن انتقل الآن إلى النافذة الأخرى، لأن الذهن بحاجة إلى الراحة بعد العناء، ولكني أدعوكم للإطلال معي من النافذة الأخرى غداً إن شاء الله.
وكل نافذة وأنتم بخير.
إشارة:
نامت ليالي الغافلين وليلُنا
أَرَقٌ يُذيب قلوبَنا وسُهادُ
|
|