* أقرأ للشيخ (أحمد بن عبدالعزيز بن باز)؛ ابن العالم الفضيل؛ والفقيه الجليل؛ الشيخ (عبدالعزيز بن باز) رحمه الله؛ كلمات متجلية؛ فيها دفقات من نور الحب والتسامح والأمل. فهو يكتبها وينشرها بين وقت وآخر؛ في صحيفة الشرق الأوسط؛ ومنها مقال عميق في معناه؛ جميل في مبناه؛ جاء في عدد هذه الصحيفة؛ ليوم الأحد (8 يونيو 2003م).. قال فيه:
* إن من أهم الإشكاليات التي نعاني منها في الوقت المعاصر؛ هي إشكالية وقضية (المواطنة والانتماء)، فبينما تسعى الدول الإسلامية إلى غرس روح (المواطنة) لدى شعوبها؛ باعتبار ذلك مواصفة أساسية لبناء الدول، وإقامة الحضارات؛ تأتي الحركات والأحزاب الإسلامية؛ بآمال خيالية للمدينة الفاضلة. والخلافة الإسلامية الكبرى، تلغى من خلالها؛ كافة أشكال الانتماء الوطني، وبالتالي تقتل كل روح للنضال والبناء الوطني، وتبيد كل مشاعر الحب والإخلاص، لتسخير ذلك كله للحزب أو الحركة، وتضيف كافة مصطلحات العداء والكراهية والبراءة والبغض.. إلخ. لكل من عاداها، وهي بذلك تعلن القطيعة الكبرى؛ بين المواطن والوطن، وتقطع كافة العلائق والوشائج؛ مستخدمة كافة السبل الممكنة؛ باسم التناقض أو التضاد بين المواطنة والدين؛ متناسين ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله أو دمه أو أهله أو أرضه فهو شهيد).
* إن التفاتة ولو يسيرة للآثار والتاريخ والشواهد والمقاصد الإسلامية، نخرج منها بيقين؛ أن مبدأ المواطنة مبدأ إسلامي أصيل، وركيزة أساسية لخلافة المسلم في الأرض.
* إننا لن نستطيع أن نبني أمتنا؛ ونشيد مشروعها النهضوي؛ قبل أن نعالج هذه الإشكالية الكبرى؛ من خلال ما قلت سابقاً، وسوف أستمر بقوله؛ ألا وهو استصلاح البيئة التعليمية؛ رسمية كانت أو غير رسمية.
* وما قال به الشيخ (أحمد بن باز) في هذا المقال الجيد؛ هو الصواب بعينه؛ إذ إن السبيل الوحيد أمام المفتونين بالخروج؛ والمسكونين بحب التسلط والتزعم؛ هو نجاحهم في إضعاف الحس الوطني عند الفرد؛ وتفتيت الوشيجة الوطنية التي تجمع بين أفراد الشعب الواحد؛ الذين يلتقون دائماً؛ على حب وطن واحد؛ وأمة واحدة؛ من أجل أهداف عليا مشتركة؛ تتطلب حماية هذا الوطن؛ وصيانة أموال وأرواح وأعراض مواطنيه.
* ومثلما كانت فكرة الخروج على إجماع الأمة؛ بتكفير الحكام، وتفسيق المحكومين؛ قديمة قدم ظهور الخوارج أنفسهم؛ فإن فكرة تذويب الوطن والوطنية؛ في وهم (الدولة الإسلامية العالمية)؛ هي امتداد لفكرة (الشعوبية) ؛ تلك التي راجت زمن الدولة العباسية؛ وكانت تستهدف تذويب العرب كعنصر؛ وكأمة مختارة للرسالة المحمدية؛ والتي منها نبي الهداية والرشادة؛ محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وظلت هذه الدعوة المشبوهة؛ تفرز الكثير من الثنائيات المتضادة؛ والإشكاليات الحادة؛ حتى عصرنا هذا؛ الذي وجد فيه من أبناء العرب أنفسهم؛ من صدق هذه اللعبة؛ ومارس هذه الهواية بغباء شديد؛ فإذا هو يقف في صف المتمردين والمتشردين؛ يتآمر ضد وطنه، ويتعادى مع أهله؛ ويمنح ولاءه لمن يحرمون ويحللون على هواهم؛ حتي عُد الدفاع عن الوطن والأهل في نظره؛ من الكفريات المحرمات..!
* إننا نعيش إشكالية حقيقية أمام (الوطنية والانتماء)، وما ينبغي لنا فعله في هذه المرحلة؛ هو تصحيح كثير من المسارات التي تبدو وكأنها غير مستقيمة؛ خاصة فيما يتعلق بالمناهج المعدة في التعليم العام؛ وكذلك لغة الحوار الإعلامي والمنبري والديني، فإذا كانت هذه الأدوات جميعها؛ لا تصب في خانة ترسيخ مبدأ الوطنية؛ وتمتين الوشائج في إطار هذا المفهوم العام؛ فما الفائدة إذن منها..؟
* إن مما لا شك فيه؛ أن الخطاب الإسلامي في عمومه؛ قد تم اقتحامه واختراقه؛ من قبل زمر من الغلاة والمتشددين؛ ومن أصحاب النوايا والأهواء. وعملية الاختراق هذه؛ ساهمت بشكل كبير واضح؛ في تشويه صورة العلاقة التي تربط المواطن بوطنه؛ وجعلت من الوطنية في أذهان بعض الناس المتأثرين بالخطاب الإسلامي الغالي؛ ضربا من الحرام، فجردتها من صفتها وسلبتها وظيفيتها، وعطلت رسالتها.
* لقد ركز كثير من الأحزاب والفرق الإسلامية المسيسة في هذا العصر؛ على مبدأ استلابي خبيث؛ قوامه ترسيخ (التبعية) للفرد دون الدولة والوطن؛ فرأينا كيف يقدم الجناة على التدمير والقتل والتخريب، تلبية لفتوى من مفتن، أو إشارة من رئيس عصابة..!
* لقد عرفوا كيف يحاصرون الصبية والشباب منذ الصغر؛ فحالوا بينهم وبين كثير من مصادر وقنوات المعرفة والثقافة والتعلم، مثل الإذاعة والتلفزة والصحافة والكتاب؛ فلم يعد أمام هؤلاء الأتباع؛ سوى كتيبات أو أشرطة لغال متشدد؛ أو مفتن ماقت؛ إلا ما ندر؛ من أصحاب الطروحات الجادة البعيدة عن الشبهات.
لهذا لم يكن للأسرة أو الأهل؛ مكان في قلب شاب غض؛ عوضاً عن شعب هو جزء منه؛ أو وطن يعيش في حماه، والمكان الوحيد في هذا القلب الطري؛ محجوز لفلان من الناس؛ الذي يٍستفتى في كل أمر؛ فيفتي فيه دون وجل أو خجل؛ وبعد ذلك؛ هو وحده الذي يأمر فيطاع..!
* كيف تبنى الأوطان؛ بل.. كيف تحمي وتصان؛ إذا كان فيها من يعبث بالعلائق الوطنية؛
ومن يسعى إلى إحلال الكراهية والجفاء والنفور؛ محل الحب والود والتواصل..!
* هناك كثير مما يقال اليوم ويكتب عن الوطن والوطنية، نجده في الكتب المدرسية؛ وفي الصحافة الدورية؛ وفي غيرها من القنوات؛ ولكن آليات التوصيل ومناهجها العملية حتى المتلقي؛ يمكن أن تكون مستهدفة هي الأخرى، وبالتالي فإن عطاءها هو الآخر؛ نتاج سلبي؛ لابد من فحصه ومعالجة أوجه النقص فيه.
* إن آمال الشعوب في النهضة والتقدم وتحصيل العلوم النافعة؛ لا تتحقق في ظل التشرذم الذي تخلفه دعاوى شعوبية مصدرة؛ أو تفرزه رؤى فردية محنطة، وإنما تتحقق بفعل أمة واحدة، بمشاعر وطنية مشتركة؛ ليس بينها ما يدعو لغير الله عز وجل، ثم العمل من أجل الوطن الواحد الموحد.
fax: 027361552
|