على حد سواء في الماضي والحاضر كان من جهل شيئاً أنكره، وسخر ممن يعلمه! وهذه القاعدة تصدق في مجال الشرعيات، فكثيراً ما ينكر الإنسان شيئاً لعدم اطلاعه عليه، أو معرفته بدليله.
وكم كنا نسخر في طفولتنا ممن يصلي في نعليه.. ونعلل ذلك بأنه يخاف من سرقتها، فإذا بنا نجد أنها سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عن أنس أنه سئل: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟
قال: نعم.
وكما في حديث أبي سعيد في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم الله قال: «إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن رأى فيهما أذى فليمسحهما وليصل فيهما».
إنه مجرد مثال في قضية جزئية يمكن أن يعمم في قضايا كثيرة وكلية. وأذكر أن بعض العلماء كان يقول: «ما كان بالكوفة أفحش رداً للآثار من النخعي لقلة ما سمع منها، ولا أكثر اتباعاً لها من الشعبي لكثرة ما سمع»!
إن كثرة معاناة (المتخصص) لتخصصه تعطيه قدرةً أكثر على التمييز والترجيح والتصحيح.. وكم هو مؤسف أن كثيراً ممن يتحدثون في القضايا الإسلامية العامة لم يصهروا في جو علمي شرعي أصيل..
كثيرون تلقوا (ثقافة) إسلامية عامة فحسب.. والمشكل ليس أنهم يتحدثون كغيرهم فقط، بل الأدهى من ذلك أن يكون من بينهم من يختط لنفسه أن يكون (مجدداً) و(مبدعاً) فيعرض بعض (الشبهات) التي يتلقاها صغار الطلبة في العالم ويدرسون الرد عليها بعرض هذه الشبهات على أنها حقائق عقلية مسلمة، ويبني عليها تصورات علمية خاطئة..
إن مصيبة الإسلام كبيرة بهذا النمط من التفكير.. أمامنا قضية أولية مسلمة لا بد من الإذعان لها في بداية الطريق، وهي تتمثل في أن الدين وحي إلهي لا يمكن إدراكه بالعقل، ولو كان العقل يستطيع أن يصل بالإنسان إلى الحقيقة الشرعية لما كان لبعثه الرسل وإنزال الكتب فائدة تذكر، ودور العقل بعد نزول الوحي هو الإيمان به وفهمه وتطبيقه.. ثم الانطلاق في المجالات الدنيوية لاكتشاف المجهول وعمارة الأرض باسم الله.
ومن هنا يمكن القول بأن أول ضوابط التصحيح والترجيح في المسائل الشرعية الكلية والجزئية يتعلق ب«النص»، سواء في إثبات النص، أو في إثبات دلالته على المقصود.
فإثبات النص يتطلب معرفة بعلم الحديث رواية ودراية.. وضمن هذا الإطار تندرج مجموعة من العلوم المتكاملة.. الرجال والتاريخ والمصطلح والعلل والأسانيد والتخريج.. الخ. ومن خلال التعامل مع مجموعة هذه العلوم يتمكن الباحث من الحكم على (النص النبوي) بالثبوت أو عدمه.
أما النص القرآني فهو بطبيعة الحال غير محتاج إلى هذه المرحلة باعتبار قطعيته التي ليست موضع جدل عند أحد من المسلمين، ثم تأتي المرحلة الأخرى وهي دراسة مدى دلالة النص الثابت على هذه المسألة أو تلك..
إن من النصوص - قرآنا وسنة - ما يكون قطعي الدلالة لا يحتمل إلا معنى واحداً، و منها ما يكون محتملاً، ودلالته على المسألة دلالة ظنية غير قاطعة.
وقد بلي العلم الشرعي - بكل أسف - بمتطفلين يصدرون عن هوى كامن في أعماقهم قد أشربوه فيفسرون النص وفق مفاهيمهم الخاصة، وربما كانوا ذوي عجمة ليس لهم ذوق صحيح ولا معرفة بلغة العرب.. فيهجمون حتى على القطعي من النصوص بصورة غريبة.
من طرائفهم ما يذكره الشاطبي عن (أحدهم) أنه فسر قوله تعالى: {كّمّثّلٌ رٌيحُ فٌيهّا صٌرَِ} بأنه (صرار الليل)!
وفي الكتابات الإسلامية المعاصرة من ذلك حمل بعير، وأنا به زعيم!
فلا بد من ضبط الفهم المأخوذ من النص إذاً بضوابط تمنع أن يكون العلم الشرعي كلأً مباحاً لكل من دب ودرج.
لا بد أن يكون على ضوء النصوص الأخرى، فلا نفتعل بين النصوص (خصومة) وهمية، بل نجمع النصوص ونؤلف بينها، ونضع كل نص في موضعه الصحيح، أحدها خاص والآخر عام، وهذا متقدم وذاك متأخر، وهذا على حال وغيره ينزل على حال أخرى، وهذا مطلق بينما الآخر مقيد.وبذلك تظهر أهمية معرفة الأصول الفقهية التي تستفاد على ضوئها الأحكام الشرعية، والتي دونها العلماء بدءاً من (رسالة) الشافعي، ومروراً بمئات الكتب والدراسات المتنوعة التي هي نوع من (الاستقراء) الدقيق الضابط لطرائق استخراج الحكم من النص.
وإلى هذا وذاك فإن (اللغة) هي الجسر الذي يعبر منه المتفقه إلى دلالة النص، سواء بفهم مفرداتها أو قواعدها وأوجه دلالتها، وقديماً جنت العجمة على أقوام فقادتهم إلى مفاهيم غريبة يأباها الحس العربي ولو كان من أمي.
ويصطحب الباحث معرفته بمقصود الشارع بما شرع من أحكام حظراً أو إيجاباً أو كراهية أو استحباباً.
إذ المقصود فيها تحقيق مصالح العباد أفراداً وجماعات في الحياة الدنيا وفي الآخرة.وإذا كان من عادة بعض المتسلطين من البشر أن يصدروا أوامر تعسفية لمجرد شهوة التسلط والطغيان كما هو مشاهد فإن الله تعالى من أسمائه (الحكيم) والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، وهو - سبحانه - لا يأمر إلا بما فيه مصلحة العباد في الدارين، وإن غابت هذه المصلحة عن عقلي وعقلك لما ركب في البشر من الضعف والنقص.
|