إن المجتمع في منظومته الواسعة والشاملة يبدأ من الأسرة والقرية والمدينة لتشكل في نهاية الأمر الدولة في إطارها السياسي الذي تألف من هذا الكل المتنوع. إن أي دولة كإطار سياسي يشكل المجتمع الكبير الذي يحتاج إلى نسيج متين يربطه ببعضه بحيث يصبح كلاً متكاملاً لا تزعزعه صدمة أو هزة مهما بلغت قوتها أو خطورتها. لقد وحد الملك عبد العزيز تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته هذه البلاد تحت مسمى المملكة العربية السعودية بعد جهد هائل ونضال مرير ضد قوى داخلية وقوى خارجية.لقد استطاع بنظرته الثاقبة وبطموحه الكبير أن يرسم شكلا لهذا الكيان الكبير في ذهنه قبل أن يبدأ في تنفيذه. استشعر بفطنته أن هذا الكيان لابد أن يكون قويا من خلال مساحته وبعده الجغرافي وعمقه الاستراتيجي. أدرك أن العقبات ستكون كبيرة وأن التحديات سوف تكون صعبة وشائكة، ولكن لكون الهدف كان واضحا لا لبس فيه ولكونه يمثل قوة لأبناء شبه الجزيرة العربية ولكونه سيشكل نقلة نوعية للحياة السياسية لهم فقد استحق كل التضحيات من أجله.
كل المقومات التي يمكن أن تشكل نسيج المجتمع السعودي لهذه الدولة الفتية كانت متوافرة في إطارها الديني المتمثل في الإسلام وفي إطارها اللغوي المتمثل في اللغة العربية وفي إطار العادات والتقاليد التي تلتقي في عدة قواسم مشتركة.
كان الوضع بعد التوحيد لهذا البلد يقتضي تدعيم هذا النسيج من خلال إطار سياسي واضح ينقل المجتمع من إطار سياسي محلي متقوقع يتمثل في النظام القبلي المنعزل والمتناثر والمتناحر إلى إطار سياسي أشمل وأعم. كان هذا النظام السياسي الجديد يقتضي وضع أنظمة للحكم وتقسيم إداري يسهل خدمة الناس في أي بقعة من هذا البلد في تسلسل يوصل قضاياهم إلى قمة السلطة للبحث فيها. وعلى مرور الوقت تطور نظام الحكم والتقسيم الإداري وإنشاء المؤسسات الخدمية المختلفة.
لم يكن الأمر بالهين ولا باليسير على الإطلاق في ظل ظروف كانت صعبة بكل المعايير سواء من الناحية الاجتماعية أو من الناحية السياسية وفي الجانب الأهم وهو الناحية الاقتصادية. ولكن رغم تلك الصعاب إلا أن المجتمع السعودي الموحد أستشعر الجانب الأهم في هذا التوحيد ألا وهو جانب الأمن الذي كان يفتقده قبل التوحيد بشكل كبير.
إذا الأمن هو الجانب الذي سهل التواصل والانتقال بين أبناء القبائل وبين المناطق دون وجل أو خوف. لم يعد هناك وجود للحدود القبلية بدرجة كبيرة، أصبح بإمكان أي مواطن أن يعيش ويستقر في أي بقعة من بقاع المملكة.
أصبح الأمن أمرا مكتسبا أساسيا نفاخر به بين دول العالم. وعلى هذا الأساس لم يكن مستغربا ولا مستنكرا أن يصاب المجتمع السعودي بصدمة كبيرة للتفجيرات الإرهابية التي طالت مباني سكنية في مدينة الرياض في الثاني عشر من ربيع الأول 1424هـ ولم يكن مستغربا أن يكون هذا الشجب والإنكار من جميع فئات المجتمع لهذا العمل الإجرامي الدخيل على الوطن.
لا شك أن هذا العمل الإجرامي شكل ردة فعل لدى المواطنين بشكل عام وعبر الكثيرون عن استنكارهم لهذا العمل المشين بأشكال مختلفة. انبرى أصحاب الأقلام للكتابة في وسائل الإعلام للتعبير عن شجبهم واستنكارهم وتنديدهم بهذه الأعمال الإرهابية. وبدأ رجال الفكر وعلماء الدين في بلدنا المحاولات لتنوير الشباب والتأكيد لهم بأن من قام بهذا العمل هم فئة ضالة ومنحرفة. ولا تزال الجهود مستمرة ولابد أن تستمر عملية التوجيه والتوعية بمخاطر هذه الفئة.
إن التنبيه والتوجيه هو جانب هام في تجنب أخطار هذه الفئة بدرجة كبيرة. كما أن التشديد الأمني والحزم الأمني يلعب دورا أساسيا في لجم هذه الفئة واكتفاء شرها. أود أن أشيد هنا بالجهود الأمنية التي بذلت قبل العملية الإجرامية وبعدها والتي لا نزال نعيشها. لقد تمكن رجال الأمن في نظري وفي مدة قياسية من أن يجمعوا خيوط هذا العمل الإجرامي وأن يتخذوا الإجراءات المناسبة لملاحقة المخططين له والداعمين له. إن ما نشرته الجهات الأمنية وعلى رأسها صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية حول الجهود التي تحققت حتى الآن يؤكد على الكفاءة العالية لرجال الأمن. لقد استشهد عدد من رجال الأمن وهم يؤدون واجبهم إلا أن أمن هذا البلد واستقراره السياسي والاجتماعي يقتضي التضحية بالنفس والنفيس وتعازينا لأسرهم وأن يجعلهم من الشهداء ويسكنهم جنته الواسعة. إن رجال الأمن بحاجة إلى التعاون الكامل والدعم الكامل من المجتمع لكي تنجح جهودهم في ملاحقة المجرمين وإحضارهم للعدالة. علينا بالصبر والتحمل لعمليات التفتيش التي يقوم بها رجال الأمن على الطرقات لأن ذلك يقود إلى الأمن الاجتماعي وستكون بإذن الله فترة مؤقتة يعود الوضع لما كان عليه من أمن وأمان. لا بد من تعضيد جهود رجال الأمن من خلال الكتابة والتوعية والتنبيه إلى المخاطر من مثل هذه الأعمال الإرهابية.
ولكن السؤال الكبيرهو : هل تكفي التوعية من خلال وسائل الإعلام والندوات والمحاضرات ومن خلال الحزم الأمني في لجم العمليات الإرهابية وإنهائها في مجتمعنا ؟
أنا أعتقد أن التوعية بأشكالها المختلفة لها دور كبير كما أن الحزم الأمني ومعاقبة المخططين والمنفذين لهذا العمل الإجرامي لهما الدور الأكبر. ولكن أعتقد أن ذلك سيقلل من هذه العمليات الإرهابية ولكنه قد لا يلغيها تماما. العمل الإرهابي والعمليات الإجرامية بشكل عام تعمل في الخفاء وتخطط في الأقبية وتنفذ في الغالب في جنح الظلام بمعنى أنها فئة لا تواجه بشكل مباشر لا الجيش ولا رجال الأمن.
ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها مدينة الرياض لتفجيرات إرهابية لبعض مبانيها أو في مدن أخرى محدودة والأمل كبير أن تكون الأخيرة. وعلى هذا الأساس نحن بحاجة إلى عدم اختزال الأمور والإشارة إلى من هم المسؤولون عن هذه الهجمات والتعرف على المخططين والمنفذين. إن القبض على المخططين والتعرف على المنفذين لا يكفي لأن العمل الإجرامي يبدو متجذراً في عقول من خططوا له. وقد يكون رؤساء هؤلاء خارج حدود المملكة وقد يكون البعض منهم في الداخل مختبئين. قد يكون هناك شبكات منظمة مستعدة لاقتناص بعض الشباب وتحريف فكرهم ودفعهم إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم في المستقبل.
يجب علينا في كل مؤسسات المجتمع الحكومية والأهلية والمجتمع بأسره أن نضع هذا النوع من الممارسة الإجرامية في حجمه الصحيح بحيث لا نقلل من بعدها الاجتماعي والسياسي والأمني والاقتصادي كما يجب ألاّ نبالغ في ذلك البعد. يحتاج الوضع إلى مواجهة حقيقية كل في مجاله بحيث نشخص المشكلة ونبحث عن دوافعها وعن جذورها وما هي الدوافع المساندة لها بالإضافة إلى بحث الأساليب التي يستخدمها المخططون للإرهاب في إقناع مثل هؤلاء الشباب من صغار السن لتنفيذ مثل هذه العمليات.
هذا العمل الإجرامي يرفضه المجتمع بكل فئاته الثقافية والعمرية ويشجبه ويدينه ويستنكره ويرى أنه عمل غير مبرر على الإطلاق، ولكننا في الوقت نفسه يجب أن ندرك أن من خطط لهذا العمل ومن نفذه تختلف رؤيته عن رؤية هذه الغالبية وإلا لما أقدموا على هذا العمل الإرهابي. من هنا لا بد أن نبحث في هذه العقلية المنحرفة كما لابد أن ندفع بمجتمعنا إلى التماسك والتنسيق والتعاون في محاربة الإرهاب.
إن دراسة عقلية مثل هؤلاء دراسة تشخيصية تستدعي تنشيط مراكز البحوث في المؤسسات المختلفة والصرف عليها بما تستحقه. ولعل مركز أبحاث الجريمة في وزارة الداخلية يأتي في مقدمة مثل هذه المراكز. الجامعات السعودية غنية بالكفاءات التي يمكن لها أن تبحث وتستقصي في الجوانب الاجتماعية المختلفة واستطلاع آراء المجتمع حول عدة جوانب مع التركيز على الشباب. ويمكن لمركز أبحاث الجريمة أن يستعين بهم بشكل أكبر عما كان عليه الحال من قبل. كما أن مراكز الأبحاث في الجامعات يجب أن تهتم بهذا الجانب وتوليه عناية خاصة وهذا سيساعد الجهات الأمنية على معالجة هذه القضايا الإجرامية.
تماسك المجتمع وتوحيد صفوفه والشعور بالمسؤولية الوطنية تعتبر جانباً في غاية الأهمية. وهذا يقتضي الانتماء والولاء للوطن. إن الولاء للوطن والشعور بالمسؤولية لدى كل مواطن يتطلب شعور الإنسان بأهميته وبقيمته في وطنه. إن هذا الأمر يتطلب الاهتمام بهذا الإنسان في كل ما يتعلق بحياته الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إن الأمن الاقتصادي في غاية الأهمية وهذا يتطلب التنمية الشاملة والمستدامة في كل أجزاء الوطن.
تحتاج التنمية إلى تخطيط سليم بحيث يتحقق التوازن في التنمية في كل مناطق المملكة. يجب ألا يشعر أي مواطن بالغبن في جانب التنمية سواء في الطرق أو في المؤسسات التعليمية أو المؤسسات الاقتصادية أو المؤسسات الصحية والوظيفية حتى لا يكون هناك مدخل للشريرين في إغواء واستمالة الشباب من بعض هذه المناطق لارتكاب مثل هذه الأعمال الإرهابية. إن التوازن في التنمية وتلمس حاجات المناطق سيقلل من الهجرة وازدحام المدن وما ينتج عنه من ظواهر سلبية لدى بعض الشباب وما قد يؤدي إليه من قصور في خدمات المدن. كما أن التوازن في التنمية سيقود إلى التقليل من حجم البطالة وخاصة مع التسريع في عملية السعودة والتقليل إلى حد كبير من العمالة الوافدة.
إن الجانب المهم هو أن التنمية لابد أن تلاحق بقدر الإمكان التزايد المتسارع في أعداد السكان حتى لا يحدث الخلل في الجوانب الخدمية أو في ما من شأنه أن يؤثر في أمن المجتمع في الجانب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وهذا يتطلب دراسات ميدانية ومتابعة وتخطيطاً سليماً.
إن الأمن هو الركيزة الأساسية لحياة المجتمعات وهذا يتطلب الوقوف وبحزم في وجه الإرهاب والإجرام بكل أشكاله وهذا يتطلب عملاً متضافراً من كل شرائح المجتمع وبكل مؤسساته الحكومية من أجل المساهمة في تحقيق ذلك والله اسأل أن يحفظ بلادنا من كيد الكائدين وشر الحاقدين الناقمين.
|