في عالم السياسة لم يعد للكلمات دلالاتها المتعارف عليها، ولم تعد تحمل ذات المعنى الذي حملته منذ آلاف السنين، فقد أصبح من المقبول أن تحمل الكلمة عدداً من المعاني ذات الدلالات المختلفة بل المتناقضة، وأصبح من حق الأقوى أن يستخدمها للدلالة على ما يريد، كما أن من حق الاضعف أن يفسرها بما يناسب مبتغاه، غير أن الصراع بين الدلالتين ستكون نتيجته للأقوى ولا ريب، فيفرض دلالته بما يحقق هدفه، أو للمجرم لتمرير جريمته، ولهذا فقد أصبحت الكلمات مجرد ألفاظ يتم استخدامها لتحقيق المرامي وليس لاحقاق الحقوق، وإنصاف المتخاصمين.
من تلك الألفاظ المستخدمة في السياسة والتي لم تعد تعني معنى بعينه تتفق عليه سائر الأمم (الجهاد، الإرهاب، المقاومة، السيادة، الديموقراطية، حقوق الإنسان، المصالح العليا)... وغيرها كثير.
فالجهاد دلالته الحقيقة أسمى أخلاق الإنسان وأجلها لأنه تضحية بالنفس البشرية في مقاصد نبيلة، وبضوابط محددة حددها الإسلام للحفاظ على النفس والمال والعرض، لكن المجرمين فسروه بما تشتهيه أنفسهم، فجعلوا قتل الأبرياء جهاداً، ومداهمة البيوت وترويع الآمنين جهاداً، وقتل المسلم والذمي والمعاهد جهاداً، وهذا تماماً على النقيض من دلالة الكلمة في معناها الحقيقي الذي فرضه الله على عباده، وقد أتاح هذا التفسير الخاطئ للجهاد من قبل أولئك المجرمين تصوير هذه الدلالة لدى الأعداء وكأنها تمثل تلك الكلمة السامية النبيلة، فانتزعوا معناها وشوهوا صورتها.
والإرهاب، والإرعاب كلمات للدلالة على الأفعال التي يقوم بها هؤلاء المجرمون والتي نقلوا دلالتها إلى كلمة الجهاد، فأصبح فعل الارهاب بدلالته الحقيقية لديهم جهاداً، وأصبح فعل الجهاد بدلالته الحقيقية تخاذلاً، وشتان بين المتناقضين.
والإرهاب اختلط مفهومه مع المقاومة، فأصبحت المقاومة إرهاباً، وأصبح إرهاب الدولة دفاعاً عن النفس، فلم يعد هناك معنى لكلمة مقاومة في ظل هذه الدلالات الجديدة.
فيا ترى ما معنى المقاومة؟ وكيف؟ وما هي حدودها؟؟.
والسيادة للدول، هل تعني تمتع كل دولة بكامل حقوقها فيما يخص سياستها الداخلية، وعلاقاتها الخارجية في حدود ما يتفق مع القانون الدولي، إذا كان كذلك فإن من حق كل دولة أن تسلك الطريق الذي تراه يناسب احتياجات مواطنيها.
والديموقراطية، أصبحت واسعة المعنى غير محددة الدلالة، لأن الديموقراطية ممارسة لمشاركة الشعوب في اتخاذ القرارات، لكن ما هو الأسلوب الأمثل لتحقيق ذلك، لا أعتقد أن هناك نمطاً بعينه يمكن تطبيقه على العالم أجمع، ليكون هو الأفضل لتلك الشعوب، والشواهد على ذلك قائمة، فهناك دول في آسيا وإفريقيا وأوروبا تطبق الديموقراطية بدلالتها الحالية لدى بعض الدول، ومع هذا فما زالت شعوبها تعيش حياة اقتصادية ضعيفة، ولم ينعم الشعب بما يحلم به، وفي المقابل هناك دول تمارس نمطاً من الديموقراطية التي تتناسب مع ثقافتها، وتملك اقتصاداً مزدهراً واستقراراً ثابتاً وأمناً دائماً ويمكن ذكر الصين كنموذج لذلك على سبيل المثال لا الحصر.
ومفهوم حقوق الإنسان، لا يمكن أن تحصر دلالاته في ثقافة بعينها، فلكل أمة ثقافتها، ومن خلال تلك الثقافة يمكنها الحفاظ على حقوق أفرادها ومجتمعاتها، غير أن تلك الدلالة لهذا المفهوم أصبحت واسعة الاستخدام للتداخل في تهميش ثقافات بعض الأمم، وتثبيت ثقافات بذاتها على أنها هي الأساس في ذلك.
أما المصالح العليا فيمكن أن تستخدمها الكثير من الدول للتدخل المباشر وغير المباشر في شؤون الغير، كما أنها يمكن أن تغير الكثير من القوانين القائمة أو تتجاوزها، وأعتقد أنها أوسع الدلالات وأطولها حدوداً.
والواقع أن تلك الدلالات ستظل متباينة وواسعة طالما أن القيم والأخلاق - وليس المصالح - لم تعد هي المنبع الذي من خلاله يمكن الاستدلال على معاني الكلمات.
|