يتساهل كثير من الآباء في رعاية أبنائهم ومتابعة مسيرتهم، منذ تفتح عيونهم على الحياة وحتى يكتمل نضجهم، ويبلغوا مبلغ الرجال، ليتحملوا المسؤولية، نحو أنفسهم، وليغرسوا ما بذر فيهم في أبنائهم، ومن ثمّ ينعكس أثر هذه التربية على مجتمعهم إيجاباً أو سلباً.
وما أثر هذا التساهل، الذي يحسّ كل من يدرس واقع المجتمعات، بثمرة غير حسنة: جنوحاً في التصرفات، وسلوكاً لايسرّ بالعمل والمخالطة، إلا من قصور الآباء والأمهات في رعاية أبنائهم، وعدم المبالاة بفلذات أكبادهم.. حيث تركوهم هملاً، دون رعاية ولا رقابة، مما يعجّل بندمهم، عندما تبدر من أولادهم أعمال السوء، أو عندما تتخطفهم أيدٍ آثمة، توردهم المهالك التي يمقتها دين الإسلام، وتنفر منها الطباع السليمة.. كما حصل من أولئك الذين اسلموا قيادتهم، لقرناء سوء، وقد تكون أيدٍ آثمة، تدفعهم بعيداً لطعن أمتهم من الخلف، ولشقّ عصا الطاعة، في محاولة لخلخلة الصف، وإحداث شرخ في جنب الأمة، فحصل منهم إرهاب وتدمير، وسفك دماء لنفوس بريئة: مسلمة وذمية مستأمنة.. وترويع مرتب للرعب، ومحاربة لله ولدينه الحق دون علم.
* ومع هذا فقد بان للمسؤولين بالمتابعة ما يبرهن على تماديهم في الشرّ . إن الجهل إذا استحكم في الإنسان، والتربية التي نشأوا عليها، كانت ضعيفة أو معدومة ، فإنا نراهم يسيرون على غير هدى، في مراحل حياتهم، لأن الأبّ ضيع أمانة الله في ولده: تربية حسنة، ومتابعة وتوجيهاً مناسباً، فالبهائم إذا لم يكن لها قيادة تهتم بها، فإن الذئب يتسلّط عليها، ويفتك بها أكلاً وتخريباً، وما أكثر الذئاب المتربّصة بشباب المسلمين، حتى يغسلوا ادمغتهم، ويلبّسوا الأمر عليهم في قلب للحقائق ليجعلوهم سلاحاً يعطنون به المسلمين في الصميم في سلب لحقيقة الإيمان من قلوبهم، وبذلك يكونون دمىً تحرك دون وعي، حتى يغور الجرح في المقتل من أمة الإسلام، بأيدي أبناء الإسلام، والعدو يتفرج على هذا الوضع المشين.. كما قيل:
هموا قتلوا أميم أخي
وإذا طعنت طعنت في نحري
وما كان لهؤلاء أن يسلكوا هذا المسلك، لو كانت تربيتهم في مراحل حياتهم، نابعة من منهج الإسلام، فرض التربية والتوجيه، لأن الأب المسلم، يجب عليه أن يكون حريصاً على تربية أولاده، التربية الحسنة، فهم قطعة من قلبه، وثمرة من ثمار فؤاده، والشيء الغالي على الإنسان، لا يترك مجالاً للتفريط فيه لرعاية ومتابعة.. لأن أولاده أمانة عنده، وسوف يسأل عن أداء هذه الأمانة وحفظها ألا ترى ان الفلاح يهتم بالنباتات في حقله، منذ تبدأ البراعم في التفتح، فهي موطن اهتمامه وشغله الذي يجهد نفسه وبدنه من أجله.. لأنه يترقّب الثمرة من هذا الجهد، ليهنأ باله ويرتاح بحسن النتيجة. فكذلك الوالدان أكثر ما يهمهما، أن يجدا في أبنائهما ما يسرّ أمانة ونجابة، وعلماً وفضلاً وسمعة حسنة، واهتماماً بشعائر الدين.. وما داما يريدان ذلك فلا بد من بذل الأسباب والجهد، الذي يعضده الدعاء مع الله سبحانه بالصّلاح والاستقامة، ومن صدق مع الله، أعانه على كل خير.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله في الأولاد، وما يرتجيه الأب منهم
نعم الإله على العباد كثيرة
وأجلهنّ نجابة الأولاد
|
إن المغريات العديدة، والغزو المسلّط على المسلمين، ومخططات الأعداء، الذين تداعوا على ديار المسلمين، كما تتداعى الاكلة على قصعتها، كان المستهدف بذلك كله معاشر الشباب، لإدراكهم أن بفسادهم ينخر السوس في جنب الأمة، وتضعف شوكتها.. ولذلك استهدفوا الشباب قاصري العلم، ضعيفي الإدراك.. فحبذوهم الى مستنقع آسن، تغيّرت معه أفكارهم ونظراتهم، فكانا طوع أيديهم يسيّرونهم بغير علم، ويزينون لهم الفتوى كما تصف الألسن، ليكونوا تحت توجيههم يتصرفون من غير إدراك، ويعملون بلا وعي، فالقبيح صار في نظرهم هو الحسن، والمصيبون من أمتهم زينوا لهم أنهم مخطؤون.. بل جهّلوا العلماء، ونصبوا من أنفسهم قيادة علمية للافتاء والقول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير حق: فضلوّا وأضلوا..
من سيرة عمر
جاء في كتاب محاضرات الأبرار ومسامرة الأخيار ان اسلم قال: خرجنا مع عمر رضي الله عنه ليلاً، حتى إذا كنا بموضع إذا نار فقال: يا اسلم اني لأرى هنا ركباً، قصر بهم الليل والبرد، فانطلق بناء فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار، وإذا بقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون، فقال عمر: السلام علكيم يا أصحاب الضو، وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت وعلكيم السلام، فقال: ادنُ؟ فقال: أدنو بخير أو دع، فدنا وقال: ما بالكم؟ قلت قصر بنا الليل والبرد، قال: وما بال هذه الصبية يتضاغون؟ قالت من الجوع، قال: فأي شيء في القدر؟ قال: ماء اسكتهم حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر، قال وما يدري عمر بكم؟.
قالت: يتولى أمرنا ثم يتغافل عنّا، قال اسلم: فاجتل عليّ وقال: انطلق بنا فخرجنا حتى اتينا دار الدقيق، فأخرجنا عدلاً من دقيق، وكبّة من شحم، فقال: احمله عليّ فقلت: أنا احمله عنك. فقال: أنت تحمل وزري؟ لا أم لك فحملته عليه فانطلق، وانطلقت معه أهرول، فألقي ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، وجعل يقول لها: دريّ عليّ؟ وأنا احرك لك. وجعل ينفخ تحت القدر، ثم افرغها في صفحة وقال لها: اطعميه للصبية، ولم يزل حتى شبعوا، وترك عندهم فضل ذلك. فجعلت تقول جزاك الله خيراً، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني عنده هناك.
ثم تنحى ناحية فربض كالأسد، فقلت: لك شأن غير هذا؟ فلم يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرخون ثم ناموا وهدوا، فقال يا اسلم أي الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت ألا انصرف حتى أرى ما رأيت «2:235 - 236».
|