كانت الساعة الثانية عشرة ليلا حينما غادرت الرياض عائدا إلى مدينتي بريدة التي وصلتها الثانية والنصف ليلا لارتباطي في الغد بعمل لا يمكن أن أتأخر عنه، حينما وصلت إلى أطراف المدينة.. توقعت أن الجميع يغطون في سبات عميق، بيد أن منظر تجمهر كبير لسيارات كثيرة جدا في الطريق الدائري الشرقي أعاقني عن الحركة.. وسط الكوم المتلاطم من السيارات التي تدور على بقعة صغيرة لاتتجاوز المائة متر مربع..!! مر زمن حتى تمكنت من العبور للطريق المؤدي لمنزلي وكلي ذهول.. من يكون هؤلاء..؟ في الغد.. كان المنظر لايزال عالقا في ذهني وأنا أقف أمام طلابي فيجرني الحديث عن درس ذلك اليوم (الأخلاق) لسؤالهم عمن يكونون أولئك..؟؟ فأعلم أنهم (طلاب) وعاطلون يجتمعون في هذا المكان يوميا.. إما للفرجة على (تفحيط) أحدهم.. وإما للدوران حتى تبزغ ساعات النهار..!! وعادت بي ذاكرتي قريبا.. حينما كنت في الرياض لحضور دورة تدريبية حينما شاهدت وضعا شبابيا غريبا في ذلك اليوم.. لا من حيث الشكل أو التصرفات أو غير ذلك، لأعلم لاحقا.. أن تلك الليلة وافقت مايعرف بعيد (فلنتاين).. ولأستعيد بذاكرتي.. ماقرأته عن ممارسات شبابية هنا وهناك، عادت بي ذاكرتي لأحداث تنشرها الصحف هنا وفي أكثر من مدينة من حوادث الاعتداء على المعلمين أو ممتلكاتهم، وحوادث (البلطجة) الشبابية المتفشية بكثرة بين أوساط الشباب هنا وهناك..!!
الصدفة أيضا قادتني لأعيش الواقع الشبابي بعمق..!! طلبت من طلابي الجامعيين كتابة تقرير عن (واقع سلبي) يعيشه كل طالب بتجرد.. وبسرية كاملة، وكنت أهدف من ذلك إلى أن يمارس الطالب نفسه دور الرقيب على تصرفاته، ما أذهلني حقيقة هو حجم الاعترافات التي أدلى بها أولئك الطلاب..!! منهم من أدمن ارتياد المقاهي وفصل بشكل دقيق واقعها الكئيب، منهم من اعترف أنه أدمن المعاكسات.. لا لهدف ولكن لأنه لايوجد شيء آخر يفعله..!! ومنهم ومنهم... وكلها ظواهر لممارسات شبابية غريبة..!! كتب لي أحد الطلاب عن واقعه الذي يعيشه من خلال استخدامه الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) قال عنها كلاما.. شككت في أني أتعامل معها منذ أكثر من أربع سنوات..!! عادني ذلك الطالب لمكتبي لأمر ما.. فكانت فرصة أن أتحدث معه عن هذا الواقع.. قال لي أن هناك أماكن يرتع فيها الشباب في غرف المحادثات المباشرة لايوجد فيها حسيب ولا رقيب..!! قال إنه يتألم اشد الألم حينما يجبره (الفراغ) على ارتياد مثل تلك الأماكن.. يقول إنها كلها وباء.. ودمار قاتل..!! قال لي إن أكثر ما يؤلمه الشتائم التي تجري على الألسنة هناك كأسهل مايكون.. سباب يطال الوالدين والأخوات دون أن يكون لهم ذنب.. إلا أن فلانا منهم هنا..!! سألته ألم يغير الوضع السياسي والأحوال الدولية من واقعهم شيئا..؟ ضحك وقال.. إن الأمر ازداد سوءا.. حينما انقلب الاخوة.. ليس العرب بل الخليجيون إلى أعداء يتبادلون يوميا السباب واللعان بسبب مواقف دولهم المتباين من الأحداث المتعاقبة..!! ما سمعته منه كان أشبه بالكارثة..!! حينما خرج طالبي النجيب.. سألت نفسي بحرقة وألم : من هم هؤلاء..؟؟؟
من هم الذين أتحدث عنهم الآن.. ويعيشون بيننا ومعنا يتفيؤون ظلال هذه الأرض وسمائها.. لكن (منطوقهم) و(تصرفاتهم) تختلف عنا ألبتة..!! الإجابة بالطبع أنهم منا.. بل ربما يكونون من بيوتنا..ومن أقاربنا، والسؤال الذي يعرض نفسه بحرقة بالغة.. (لماذا) هم كذلك..؟؟ من يتحمل السبب..؟؟ الأسرة..؟ المدرسة..؟ الإعلام..؟ المجتمع..؟ من يتحمل ما وصل إليه حال الشباب..؟؟ وبقدر الأسئلة التي تترى وتنثر أشواكها بتدفق، يبقى السؤال المهم.. (ماهو الحل..؟) جميل جدا أن نركز على الأسباب.. لكن الأجمل والأهم أن نركز أكثر على الحل..!! أي الحلول هي الأقدر على علاج الداء ومكمن الخلل..؟؟ وهل نفتقد نحن إلى الحلول..؟
كنت في زيارة لأحد المسؤولين في قطاع تربوي هام والذي منحني وصاحبي وقتا لنتكلم ونقول مانريد.. وحينما انتهينا قال: أين العمل..؟ لا نريد نظريات.. ودراسات.. ومؤتمرات، نريد العمل والتنفيذ..!! بالفعل.. نحن نجهد أنفسنا كثيرا في الدراسات والتحاليل والتنظيرات المستفيضة بكثرة عن (الأسباب) ثم أكثر عن (الأعراض) ونجتهد في اقتراح (الحلول) لكننا لانعمل..!! كم من توصية أصدرها مؤتمر ما أو لقاء جمعية علمية أو ندوة تربوية.. ولم تر النور ولم يعلم عنها إلا من حضرها..؟؟ الكثير الكثير..!!
إن أولئك الشباب هم أمانة في أعناقنا.. سنسأل عنهم يوم القيامة سواء كان ذلك من منطلق دورنا كقادة (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) أو من منطلق أننا أمة أمرت بالتناصح فيما بينها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..!!
دورنا يبدأ أولا في إخراج الدراسات والأطروحات التي بقيت حبيسة الأدراج لنوظفها في مواجهة الواقع، لنعمل على ردم هذه الفجوة من خلال الرؤى العلمية والقراءات المستفيضة المعيشة لواقع الحال الشبابي، وحتما سنجد بين طياتها توصيات تحمل الحل وتعالج الواقع بدلا من اتخاذ الخطوة متعجلة تفتقد للمعايشة العلمية والتحليلات المتبحرة في فهم نفسيات الشباب ودوافعهم عرضا ومعالجة.
|