على مدى اكثر من خمسين عاماً، لايبدو ان الادارات الامريكية، المتعاقبة على البيت الابيض تحسن قراءة الشأن العربي، في مكوناته التاريخية والاجتماعية، لقد كان حلفاؤهم البريطانيون اكثر وعياً منهم في بداية القرن الماضي بهذا الشأن، لكن هؤلاء تخلوا عن هذا الشأن، لهذا الذي تطور حتى اصبح القطب الأوحد في هذه الدنيا.
ولا يبدو حتى الآن ان الامريكان، وادارتهم الحالية، قد حققت اي نوع من ناتج موضوعي لكافة تحركاتهم في المنطقة، او حتى في مناطق اخرى ذلك ان «البرواز» الذي يبروز صورتهم، كانت تظهر فيه صورة ذلك المتغطرس المزهو بقدرته العسكرية، انها صورة بطر القوة، وبعثرة القدرة، فلا يبدو انهم قد حققوا للعراق نوعاً من الامن والاستقرار، وهو نفس الوضع في افغانستان، لقد فتحو اغزوهم بؤراً جديدة للصراع المتفجر، كما انه من المتحقق انهم وعلى مدى خمسين عاماً لم يحسموا صراع العرب مع الاسرائيليين، بل ان دعمهم المباشر لقوات الاحتلال التي تتمادى في التنكيل بالشعب الفلسطيني، وتمضي بلا هوادة في قتل الاطفال وهدم المنازل، وازالة القرى بكاملها من الوجود، في محاولة دائبة لاحلال اليهود المحتلين مكان من تبيدهم سطوة القوة الغازية، على نحو يذكر بما فعله اسلاف الامريكيين الحاليين بالهنود الحمر، هو رد الفعل المباشر لما تشهده المنطقة ومناطق اخرى في العالم، من عنف مضاد، تصفه آلة الدعاية الامريكية والاسرائيلية بالارهاب.
ودعونا ننظر في آخر هذه التطورات في المنطقة التي اعقبت غزو القوة الامريكية للعراق، انعقاد مؤتمري شرم الشيخ والعقبة، لمناقشة وتفعيل خطة السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين المعروفة باسم «خريطة الطريق» وهي خطة امريكية الصنع والمنشأ، ومناقشة قضية الارهاب من مفهوم امريكي، ويبدو للوهلة الاولى ان الرئيس الامريكي جورج بوش، القادم الى المنطقة قدوم القيصر المكلل بأكاليل النصر ونياشين الحرب المنتصر، كان واثقاً بما حققته آلته الحربية في المنطقة، لذلك لم يعد يعمل حساباً لآراء المجتمعين معه، وكان قد غادر مدينة «إيفيان» الفرنسية تاركاً اجتماع الدول الثماني قبل انهاء اعمالهم، في بادرة هي الاولى من نوعها، وقد بدأ يتصرف كما لو كان زعيماً لهذا العالم، «رؤساء الدول الاخرى يستمرون في اعمالهم فيما هو معني بأمور اخرى»، وهو فيما يعني بصورة اخرى، غمزاً للموقف الفرنسي المعلن، فيما يتعلق بقرار الحرب على العراق، ومن ينظر الى الصورة التي نشرت لاجتماع العقبة، على يمينه «شارون» وعلى يساره «ابو مازن» محمود عباس، وهو يفتح ذراعيه باتجاه كل منهما، تكفي لعدة قراءات وتحليل مضمونها، وبلا شك فان الرئيس الامريكي جورج بوش الابن، يستمد كل ذلك من خلفيته السياسية، التي تم اعدادها وصياغتها في عهد قريب، لهذا الجالس في البيت الابيض على عرش الدولة الاعظم في العالم.
لقد جاء «بوش» الى شرم الشيخ وهو واثق من انه سيفرض توجهاته على واقع عربي مهزوم، لكنه وادارته، لايجيدون قراءات المشهد العربي، بكل خلفياته التاريخية والاجتماعية، ومدى ارتباط شعوب المنطقة بدعائم معتقداتهم الدينية، في علاقاتها الجدلية بتكوينهم الاجتماعي، وقد تخيل وهو القادم المنتصر ان يفرض رؤاه بعيداً عن ذلك الواقع، لقد غاب عن فطنته ان القوة تهزم القوة، لكنها لاتستطيع ان تهزم معتقدات الامم والشعوب، وقد رأى في قبول الفلسطينيين لخطة الطريق، وقبول الاسرائيليين للخطة تحت ضغوط «دراماتيكية» امريكية، فرصة لاملاء عدة شروط اهمها مطالبة المجتمعين بالموافقة على اعلان تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال الاسرائيلي، كمكافأة لهم على قبول مناقشة خطة السلام مع الفلسطينيين، وهو المبدأ الذي لقي معارضة ورفضاً واضحاً من المملكة، حيث اعلن صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ان هذا الامر لايمكن تقديمه قبل اكتمال وتفعيل مشروع السلام التام بين الفلسطينيين والعرب واسرائيل، وهي المبادئ التي اوضحتها بجلاء المبادرة العربية التي طرحها في مؤتمر القمة العربية في بيروت 2002م والتي لم تجد اي دعم من الادارة الامريكية، رغم ايجابيتها وحصولها على اجماع عربي، واعتبارها مبادرة عربية جماعية، تطرح الارض مقابل السلام، بانسحاب دولة الاحتلال الى حدود ماقبل 1967، والاعتراف الكامل.
والسؤال الآن وهو الموضوع الرئيسي لهذا المقال هل ينبغي للمملكة العربية السعودية ان تطبع علاقاتها مع اسرائيل، حتى في ظل اعلان وتفعيل مشروع السلام.
قبل الاجابة على السؤال، من المفيد ان نسترجع بإيجاز، بعض ذاكرة الاتصالات العربية الاسرائيلية، وهي تبرز بشكل واضح المتناقضات في المواقف العربية، التي تبدو غير واضحة او مبررة لكيان يفترض انه كيان عربي واحد، فقد انفردت عدة دول عربية، باتخاذ مواقف منفردة في تعاملاتها السياسية او التعاقدية مع اسرائيل، والحقيقة ان الدولة العربية الكبرى، والتي هي دولة المقر للجامعة العربية، كانت البادئة في اجراء حوار منفرد مع العدو، حيث زار الرئيس السادات القدس في 19 نوفمبر 1977 في خطوة، وصفت بانها شجاعة، وكان ينقصها صفة الاجماع العربي او التشاور قبل القيام بها، وقد مضى الرئيس السادات فيما يشبه اجراءً تاريخياً، بتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل في 26 مارس عام 1979 ذلك الاتفاق الذي عرف باتفاقية «كامب ديفيد»، وواقع الحال ان الرئيس السادات كات لديه قناعاته، واهمها انه لو اتجه الى الجامعة العربية للحصول على تفويض، او موافقة على قيامه بتلك الاجراءات لما تمكن من ذلك، لان ميثاق الجامعة العربية، يفترض صفة الاجماع للتصديق على قرارات الجامعة، وهو مالم يكن ليحصل عليه لو عرض على الجامعة مشروعه هذا، ليس لعدم توفر الاجماع فقط، وانما لتباين وجهات النظر العربية واولها الفلسطينيون ومن خلفهم الدول الداعمة لمواقفهم، لقناعات تاريخية ولدوافع آنية، وقد خطا الملك حسين نفس الخطوات في مؤتمر وادي عربة، الذي افضى الى اقامة علاقة دبلوماسية مع اسرائيل في 26 اكتوبر 1994م.
وفي ظل متغيرات عربية ودولية في المنطقة، كان ابرزها واشدها تأثيراً في بروز مواقف عربية متناقضة، قضية غزو القوات العراقية للكويت في اغسطس 1990 وعجز الدول العربية عن تفعيل دور الجامعة العربية، لحل هذه المعضلة عربياً، بل تم تدويل هذه الحالة وهي التي فتحت المنطقة على مصراعيها لغزو دولي تمثل بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، هذا الغزو الذي تطور مداه في مارس 2003 تحت ذرائع متعددة معروفة، وقبل ذلك التاريخ وفي فاصل زمني بين غزو العراق للكويت عام 1990 وغزو العراق من قبل الولايات الامريكية وبريطانيا عام 2003م شهدت المنطقة متغيرات سياسية فيما يتعلق بالتعامل مع دولة الاحتلال الاسرائيلي مشرقاً ومغرباً، حيث اتخذت بعض دول خليجية عربية عدة قرارات بقيام الاتصالات مع اسرائيل، تطورت الى فتح مكاتب تمثيل لها في بلادهم، وقد اخضع هذا الاجراء مجلس دول التعاون الخليجي الى التساؤل عن مدى اهميته، اذ تم اتخاذ هذه الاجراءات بشكل منفرد متجاوزاً ما يمكن طرحه داخل المجلس، كما اتخذت دولة عربية في اقصى المغرب العربي هي موريتانيا، اقامة علاقات دبلوماسية مع اسرائيل عام 1999، وللمرة الثالثة تخضع مؤسسات العمل العربي، للتقليل من اهميتها بسبب نزوع دول اعضاء في تلك المؤسسات، الى اتخاذ اجراءات مباشرة في التعامل مع دولة معادية للعرب، فيما يعتبر خرقاً استراتيجياً للأمن العربي.وهكذا تم تهميش مؤسسات العمل العربي المشترك، وفتح المجال في القضايا العربية نحو التدويل، وهو امر بالغ الخطورة في مسيرة تاريخ هذه الامة، التي توشك على ألا تكون امة واحدة الا باللغة والجنس والدين، مثلها في ذلك مثل الدول الناطقة باللغة الاسبانية، دول دول امريكا اللاتينية او دول الاتحاد السوفيتي التي انفرط عقدها الا من اتحاد فدرالي روسي.
ان الواقع الذي تشهده البلاد العربية الآن، اشد خطراً ووبالاً من ذلك الذي شهدته في اعقاب الحرب العالمية الاولى، حيث وضعت الكيانات العربية الصغيرة التي تم تخطيط جغرافيتها في مواجهة كيانات عربية اكبر جغرافياً وديموغرافياً، ولعبت اقدار ثرواتها الطبيعية دوراً مؤثراً لتبرير الصراع والتهديد المسوق بالطمع في حيازتها، مما جعل تلك الكيانات تلجأ الى حماية امنها من اطراف خارجية وفق مسوغات تصالحية متبادلة، لقد انبتت تلك «البذور المسمومة» التي ذرت في ارض حرثتها آلة الاستعمار والاطماع قبل قرن، وهاهي الآن تحصد ما اينعت به تلك الثمار.
نعود الى سؤال هذا المقال الرئيسي: هل ينبغي للمملكة ان تطبع علاقاتها مع اسرائيل، حتى في ظل عقد اتفاقية سلام مباشر بين الدول العربية واسرائيل، وانسحابها الى حدود ماقبل 1967 واعلان قيام الدولة الفلسطينية دولة مستقلة؟
ان واقع علاقات الدول ببعضها، وقيام دول نتيجة لاستقلالها، لايرتهن الى اعتراف شامل لكل دول العالم، ولا يقلل من قيام دولة عدم اعتراف دولة اخرى بها، ولاتزال هناك في العالم دول ليس بينها وبين اخرى علاقات دبلوماسية، او حتى تطبيع لهذه العلاقات، التطبيع يعني تفعيل وثائق الاعتراف وقيام نسق من العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسياحية والتعليمية والثقافية وغيرها، وتعتبر حالة اعتراف الاتحاد السوفيتي بالملك عبدالعزيز ملكاً للحجاز وسلطان نجد وملحقاتها في 16 فبراير 1926 نموذجاً للاعتراف السياسي، وكان من اوائل الدول التي اعلنت اعترافها، لكن تلك العلاقات، لم تصل الى مستوى التطبيع الكامل، وحينما تم انهاء تلك العلاقات الدبلوماسية والسياسية، ظلت العلاقات الاقتصادية قائمة وفق منظومة احتياج السوق السعودي المفتوح لبعض الواردات الروسية، وحينما زالت دواعي اعادة تلك العلاقات، تم اعادتها.
وفي الحالة الاسرائيلية، فان ماتم اعلانه في وثيقة المبادرة العربية التي تبنتها القمة العربية في بيروت 2002م واساسها رؤية سعودية، فانها تفترض الاعتراف المتبادل بين اسرائيل وفلسطين والدول العربية، مشروطاً بعودتها الى حدود ما قبل عام 1967م.
ان سياج هذا الاعتراف، هو في اهم مبادئه سياج امني، لكنه لايفترض بالضرورة تطبيع ذلك الاعتراف واقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفراء، والى غير ذلك من اسباب التطبيع، وحتى في حالة العلاقات فيما بين مصر واسرائيل، لاتزال اجراءات التطبيع لم تكتمل وتواجه معارضة شعبية عارمة، لقد ظلت تلك العلاقات مجرد اطار امني، داعم لاتفاقية السلام بينهما.
واعتقد انه فيما لو تم تفعيل اي اتفاق شامل بين الدول العربية واسرائيل، بمقتضاه تنسحب اسرائيل الى حدود ما قبل عام 1967 حتى لو استخلص العرب القدس كاملة في انسحاب اسرائيلي، فان عدم قيام علاقات مباشرة بين المملكة واسرائيل لا يؤثر في اتمام تلك الاجراءات ولاينفي قيامها وتفعيلها، بل يحق للمملكة من اهمية دورها العربي والاسلامي ان تساعد في اتمام تلك الاجراءات، ولكن لايعني ضرورة التزامها بقيام سفارة وتمثيل دبلوماسي وتطبيع مع اسرائيل لاعتبارات تاريخية ودينية ثابتة، ويجب ان يتم احترام تلك المبادئ من جميع الاطراف الدولية.
ولايحق لأي دولة مهما كانت، ان تطالب بغير ذلك، والا تضع هذه المسألة سبباً يؤزر من اتمام ذلك الاتفاق، بل ان تعضيد هذا الموقف التاريخي، يجب ان تساعد عليه جميع الاطراف الدولية، حفاظاً على توازن مهم مطلوب، وان يحترم حياد هذا الموقف لمصالح التأثير في القرارات التي تتخذ في المنطقة، واذا كانت الولايات المتحدة الامريكية، قد تسيّدت العالم بحكم معطيات قوتها وهي منتج بشري قابل للتغير والتبدل من حال الى حال، فان المملكة هي الدولة التي تستمد قوتها وهيبتها من مسببات إلهية وثوابت تاريخية لاتقبل التأويل او التغيير، ولا تتبدل من حال الى حال.
|