تحقيق وتصوير حمّاد بن حامد السالمي
من يزور تهامة الوسطى؛ ومحافظة القنفذة تحديداً ولايرى الشيخ الباحث المؤرخ (حسن بن ابراهيم الفقيه) فقد فاته الشيء الكثير..!
لماذا..؟
لأن محافظة القنفذة هي من البلدات ذوات الآثار.
ولأن مفتاح معرفة هذه الآثار هو عند الشيخ الفقيه.
فهو مؤرخ ومجغرف تهامة الوسطى وساحلها وبحرها وبرها.
وهو نافض التراب عن وجه (مخلاف عشم) الأثري التاريخي الفريد المكون من قرى تاريخية أثرية خمس، هي (قرية عشم عاصمة، المخلاف، وقرية مسعودة، ومحلة النصايب، ومحلة الأحبة الجنوبية، ومحلة الأحبة الشمالية).
وهو كذلك؛ باعث سيرة (مدينة السرين) الأثرية من جنوبي محافظة الليث.
وفي زيارتي الأخيرة لمحافظة الليث حرصت على زيارة الشيخ الفقيه في داره بوسط مدينة القنفذة، والتحدث إليه في مكتبته الخاصة.
الشيخ الفقيه مع الزميل حماد السالمي
شروق القنفذة .. عهد جديد لمدينة نامية
حسن بن إبراهيم الفقيه يروي قصة المخلاف التهامي، الذي بدأ بالذهب، ثم ما لبث أن ذهب..
البَلَم.. ثم القنفذة
تحول مجلسنا مع الشيخ حسن الفقيه إلى منتدى للكلام على القنفذة وما سبقها من مخاليف تهامية حولها.
فنشوء القنفذة على هذا الساحل كما يراه الشيخ الفقيه يعود إلى موقع (جزيرة البلم) من غربي القنفذة لماذا..
يقول الفقيه:
لأن جزيرة البلم هذه تقرب من الساحل بنحو نصف كم وبين الشاطئ والجزيرة يقع مرسى القنفذة الذي يحد من الرياح والأمواج فاتخذته السفن العابرة والمحلية محطة استراحة وتزود فقامت نواة هذه المدينة بجوار هذا المرسى.
* أما متى نشأت..؟
يقول: من خلال تتبع بعض النصوص التاريخية فيبدو أنها نشأت في مطلع القرن التاسع الهجري، وتطورت في عقود ذلك القرن ولذلك نجد ذكرها يتردد في الكتب التاريخية منذ مطلع القرن العاشر الهجري.
محطة للحجاج
وعلى مر التاريخ كان للقنفذة أهمية كبيرة ذلك أنها -كما يقول الشيخ الفقيه- من محطات حجاج اليمن ومن حج ومرّ بها من حجاج جنوب الجزيرة العربية وبلاد فارس والهند وغيرها. وقد ذكرت كتب الرحالة المارين بها، معلومات مفيدة، وخاصة حجاج اليمن، الذين نشرت رحلات حجهم في مؤلفات نثرية أو شعرية وقد اتخذ الملك عبدالعزيز رحمه الله مدينة القنفذة ومدينة الليث مدخلاً لحجاج الهند واليمن إلى مكة المكرمة وهو ما تعرض له الوثيقتان المنشورتان في كتاب (أصدق البنود في تاريخ الملك عبدالعزيز آل سعود) لمؤلفه عبدالله الزامل.
ثم يضيف تجدر الإشارة إلى ان مدينة القنفذة قد ورد ذكرها لدى بعض الرحالة الغربيين منذ القرن السابع عشر الميلادي.
صمود مدينة
* كيف استطاعت القنفذة الصمود أمام الأطماع وخاصة هجمات الايطاليين فيما سبق..؟
سألته فقال: بالرغم من قلة أو ندرة المعلومات التاريخية التي تشير إلى ما عانته هذه المدينة من هجمات تستهدف حياتها التجارية وموجودها من عروض التجارة وما يعد مطمعاً لذوي السلب والنهب فإن ما عثر عليه من معلومات في بعض المصادر يشير إلى ان هذه المدينة كانت قد لقيت كثيراً من متاعب هجمات الذين كان يغريهم بعض المتصارعين على الحكم في الحجاز قبل استيلاء الدولة السعودية الرشيدة عليها فكان موجودها من التجارات والسلع ووسائل الحضارة مادة لإغراء بعض الطامعين في مهاجمة القنفذة ومتاجرها وموجودات منازلها ومخازنها مقابل معاهداتهم لأولئك المتصارعين على الحكم وتعرضت هذه المدينة لكثير من المحن والمتاعب نتيجة ذلك حتى أنقذها الله بالأمن والأمان في عهد هذه الدولة حرسها الله.
ثم يردف قائلاً: أما مايخص هجمات الايطاليين وكانت في الثلث الأول من القرن الرابع عشر الهجري فكان ذلك ضمن صراعات الدول التي كانت تجوب بارجاتها في البحر الأحمر كما حصل لها في أواخر العقد الثالث من القرن المذكور عندما هاجمت البارجات الايطالية بعض السفن العثمانية وحطمتها في ميناء القنفذة ومازالت هناك آثار من تلك السفن العثمانية المحطمة.
مخلاف عشم
في مصادر تاريخية قديمة مثل (المسالك والممالك) لابن خرداذبة وكتاب: (البلدان) لليعقوبي و(جزيرة العرب) للهمداني و(نزهة المشتاق) للإدريسي يرد ذكر (مخلاف عشم) وأنه أحد مخاليف مكة بتهامة إلا ان الشيخ الباحث حسن الفقيه قد نفض التراب عن حضارة هذا المخلاف وجاء به من غياهب النسيان، إلى نور المعرفة والعرفان وذلك من خلال بحثه القيم غير المسبوق: (مخلاف عشم) في 550 صفحة وعشرات الصور لنقوش صخرية فريدة في معظمها شواهد لقبور في خمس مدن تنتظم هذا المخلاف وهي: (عشم وهي عاصمة المخلاف، مسعودة، محلة النصايب، محلة الأحبة الجنوبية، ومحلة الأحبة الشمالية).
ولمزيد من الايضاح حول هذا الاثر الحضاري الفريد يقول الفقيه:
المخلاف في اصطلاح الجغرافيين هو: (وادي أو موضع فيه مزارع وقرى أقامت به قبيلة وعمرته).
موقع عشم
يحدثنا الفقيه عن موقع عشم فيقول في الشمال الشرقي من بلدة القنفذة بمسافة 65 كيلاً وعلى بعد 20 كيلاً شرق قرية المظيلف وبمسافة 6 أكيال شمالا من وسط وادي ناوان وجنوب شرق وسط وادي ضرماء بثلاثة أكيال وذلك عند تقاطع خط طول 12/41 درجة شرقا بدائرة عرض 36/19 درجة شمالا تقريباً.
ويقول أيضاً: (عشم) بالعين المهملة المفتوحة والشين المعجمة المفتوحة بعدها ميم هو الاسم الذي ورثه ويطلقه عليها سكان البيوتات المتفرقة حول موقعها وينسبونها إلى بني هلال فيقولون بأنها قرية (هلالية) كعادة سكان القرى والبوادي، في نسب القديم المهجور المبني بالحجارة من المحلات والقرى والآبار إلى بني هلال.
مامعنى (عَشَم)؟
يجيب: من معاني (عشم) في اللغة الخبز اليابس.. وعشم محركة: أي يابس أو فاسد.. وعشم عشماً وتعشم: يبس.. وشجر أعشم: أصابته الهبوة فيبس.. وأرض عشماء: بها شجر أعشم.
والواقع ان الصلة وثيقة بين هذه المعاني بعامة وصفة الأرض العشماء بخاصة وبين طبيعة الوسط الجغرافي الذي قامت فيه هذه القرية الأثرية.
وهناك من المؤرخين من نسب عشم إلى معدنها (معدن عشم) الذي كان معروفاً منذ القرن الرابع الهجري أو (عشم بن الحاف بن قضاعة بن مالك) كما عند الهمداني أو (عشم بن حلوان بن عمران) كما عند الكلبي.
ويرى الفقيه: انه لا يبعد ان يكون اسم (عشم) كان لشخص من سكان هذه الجهة اكتشف موقع المعدن أو دل عليه ثم تكونت هذه القرية بقربه أو على مسافة قريبة منه ونرجح - يقول- عودة التسمية إلى المدلول اللغوي تبعاً للخصائص الجغرافية المحيطة بهذا الموقع.
خلاف عشم
وخلاف عشم هذه.. ماذا يوجد في محافظة القنفذة من معالم تاريخية وأثرية..؟
سألت الشيخ الفقيه فقال: من آثار محافظة القنفذة قرية عشم ومحلة الأحبة الجنوبية ومدينة حلي بن يعقوب وهناك مواقع أثر ية صغيرة متعددة مثل معدن ثميد وآثار مشرف بوادي يبة وقلعة العينة في حلي وغير ذلك.
دلالات حضارية
في الإجابة عن سؤال يتعلق بالدلالات الحضارية لعشم يستشهد الفقيه بما ورد عند الهمداني وموريتس خاصة في شأن معدن عشم فهو معدن شهير طيلة القرنين الرابع والخامس الهجريين وأنه من معادن تهامة من تلك التي تقع في أسافل الجبال المتدلية على تهامة وقربه من ساحل البحر الأحمر الذي كانت بعثات سليمان عليه السلام تنقب في المعادن القريبة منه عن الذهب وتعود بكميات مذهلة.
تلك كانت دلائل على الأهمية التعدينية وقد ذكر الفقيه خمس دلائل على الأهمية الجغرافية للموقع منها مرور طريق الحج به وأنه محطة بريد ثم قرب عشم من سوق حباشة الذي امتد من العصر الجاهلي إلى مئتي عام في العصر الإسلامي.
وفي هذا الجانب يؤكد على دور علمي كان لعشم من تعليم للناس أمور عباداتهم والتجارة والعقود والعهود وغير ذلك يؤكد ذلك وفرة النقوش التي كتبت حتى للأطفال وما احتوته من اختيارات قرآنية وعبارات دعائية وتوثيقات تاريخية وما ظهرت به من أسلوب لغوي ونحوي مستقيم وتنوع الخطط ثم ورود أسماء لعلماء وشخصيات من ذوي المكانات المتفاوتة.
شاعر من عشم
ولأن عشم قرية تاريخية متحضرة فإنه ينسب إليها إعلام منهم الشاعر (محمد بن سعيد العشمي) الذي يبدو أنه عاش في منتصف القرن السادس الهجري. ويورد المؤرخون نصوصاً شعرية له من ضمنها هذه الأبيات الغزلية من قصيدة ميمية يقول فيها:
راح عن جفن مقلتي منامي
ورماني الهوى بسهمي سقام
ومن أمسى له الفراق قريناً
والهوى.. أسقياه كأس غرام
كيف عذلي، ولست تعلم مابي
جل مابي.. فلا تعد لكلامي
لو تراني إذا تدلى سهيل
أو دنا للمغيب بعض النعام
أتقلى على الفراش ضجيعاً
مدنفاً تحته وهج الضرام
أمراء من عشم
ويورد الفقيه في بحثه عن مخلاف عشم أسماء أمراء كانوا في هذا المخلاف منهم عبدالله بن عويد بن محمد بن عبيد الله، يعلى بن عبدالله بن عويد، السلطان عبدالله بن نوح بن يحيى بن عويد، السلطان محفوظ بن عبدالله بن بدر آل عويد).
وهذه الأسماء تنتهي إلى آل عويد التي تقلدت إمارة عشم في القرن السادس الهجري.
نشاط سكاني
إن الكلام على حياة عشم وحضارتها يطول والباحث يورد مباحث كثيرة مفيدة في هذا الخصوص ومنها: حصره للنشاط السكاني الذي يرى انه رعوي وزراعي وتعديني ذهبي وصناعي، وتعدين حديدي ونقشي وضرب عملات وغيرها.
اندثار عشم
أما نهاية هذه المدينة الحضارية فيرجح الباحث انه كان في منتصف القرن السادس الهجري ويرجع سبب ذلك ربما إلى موجة حادة من أوبئة فتاكة مثل الجدري أو الكوليرا أو الحروب أو المجاعة.
شواهد من عشم
إن الشواهد التاريخية الدالة على عشم وحضارتها البائدة تتمثل في معظمها في عشرات الشواهد القبرية فهي لوحات من نقوش حجرية تذكارية لرجال ونساء وحتى أطفال تحمل أسماء أصحابها وتواريخ الوفاة وآيات قرآنية أو عبارات دعائية وهي في جلها نقشت في القرون الأول والثاني والثالث والرابع الهجرية.
ماينبغي فعله
بعد استعراض تاريخي شائق لحضارة عشم مع الشيخ الباحث حسن الفقيه سألته: ولكن.. ماذا ينبغي فعله حيال آثار بلادنا عموماً وآثار القنفذة خصوصاً..؟
قال: مايجب فعله هو المحافظة عليها بوضع أسوار لها وإقامة الحراسة وتوجيه مؤسسات التعليم والثقافة إلى زيارتها والاطلاع عليها وكل ذلك يتطلب سرعة البحث والتنقيب عن موجوداتها وإصدار الكتب والنشرات التعريفية بها.
* كيف نستفيد..؟
سألته كذلك كيف نستفيد علمياً وسياحياً من الآثار ومن مدينة أثرية مثل عشم أو السرين..؟
قال أولاً: يجب الحفاظ عليها وتسويرها وحراستها ثم المسارعة إلى التنقيب ووضع المنشورات والكتيبات التعريفية بها وبما تحويه أوعيتها الأثرية من المدلولات ثم العمل على الدعاية لزيارتها وتوجيه طلاب الجامعات والدراسات العليا بالذات للاستفادة منها ومما فيها من موجودات تفيد في الدراسات التاريخية والأثرية والفنية وغير ذلك، ثم إقامة المتاحف المناسبة في مواقع الآثار نفسها وفي عواصم المراكز والمحافظات والمناطق وفق خطة مدروسة.
أنصفوها.. لم ينصفوها..؟!
* هل أنصف الباحثون آثار المخاليف التهامية؟ وهل هناك مواقع أثرية في حاجة إلى كشف مكنوناتها؟
أجاب قائلاً:
الذي أعرفه ان وكالة وزارة المعارف للآثار والمتاحف ضمت مؤخراً إلى الهيئة العليا للسياحة - تبذل جهوداً حثيثة وموفقة في شؤون البحث والتنقيب وإقامة الأسوار والصيانة وغير ذلك للمواقع الأثرية.
أما الباحثون فمازال جهدهم محدوداً على الرغم مما تزخر به كل محافظات تهامة.
وفي مناطق ومحافظات أخرى هناك جهود تستحق الإشادة والتبجيل يقوم بها باحثون نشطون حتى ولو لم يكونوا متخصصين ولعل من أبرز هذه الجهود جهود الاستاذ الدكتور ناصر بن علي الحارثي وجهود الاستاذ حمّاد بن حامد السالمي التي عرفتنا على كثير من آثار محافظة الطائف.
ولولا جهود الاستاذ السالمي بالذات لما عرفنا تلك الآثار العريقة لسدود الطائف وغيرها وكذلك ما نشره الدكتور الحارثي عن المساجد الأثرية هناك وليت لنا مثلها في بقية المناطق والمحافظات.
دراسات متخصصة
ثم يضيف الشيخ الفقيه قائلاً في ختام حديثه لنا هنا:
أما الدراسات والبحوث العلمية المتخصصة التي تعد من روائع البحث الأثري فنذكر منها ما كتبه استاذنا الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري عن الفاو وغيرها.
والاستاذ الدكتور سعد الراشد وكيل وزارة المعارف للآثار والمتاحف عن الربذة والنقوش الإسلامية في راوة وغيرها.. والاستاذ الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي عن مواقع كثيرة في تهامة وأتمنى ان تترجم أعماله عن آثار تهامة التي كتبها إلى الانجليزية وغيرهم من المتخصصين.
|