المتربصون بالوطن والأمة يجددون اساليبهم ويبدلون أقنعتهم بين الحين والآخر، واستهداف الشباب والمراهقين من ابناء الوطن الذين هم رجال المستقبل وادخالهم في مسارات مظلمة وموحلة وبرمجتهم ليكونوا أدوات تخريب وتدمير لأهلهم وأسرهم وبلادهم هو جزء من هذا المخطط الشرير، وعندهم حيل ماكرة واساليب خبيثة، فهم اما ان يسقطوهم في الشهوات والمخدرات فيحولوهم الى جثث هامدة مسكونة بالوهم والهلوسة والجنون فيدمروهم ويدمروا اهلهم واقرانهم ومجتمعهم من خلالهم، واما ان يأخذوهم من جانب الغلو والتطرف والتكفير وحرب المجتمع الامة وكلا الطريقين - الغلو والجفاء، الافراط والتفريط - كلاهما طريقان مدمران مهلكان غزيت الامة عن طريقهما منذ القدم، ومن اخطائنا الكبرى اننا نحس بالخطر ونرى شبابنا يتساقطون في الطريقين وتبدو ردة الفعل عندنا ضعيفة ومرتبطة بالاحداث، فإذا صحونا على حدث مدمر مثل التفجيرات الاخيرة في الرياض او التفجيرات العليا قبلها تنادينا للعمل والدراسة والبحث في جذور المشكلة وأسبابها، ثم اذا برد الجرح بردنا معه واسترخينا الى ان نفيق على حادث آخر وهكذا. اعود لحادث التفجير الأخير في الرياض وهو الذي دفعني للكتابة في هذا الموضوع نظراً لبشاعته وانتهاجه اسلوباً خطيراً جديدا على مجتمعنا وبلادنا، واستهدافه شرائح مختلفة وفئات متعددة فيهم المسلم وغير المسلم وفيهم المواطن والمقيم وكلهم معصومو الدم والمال، مما يدل على ان المخططين لهذا العمل والمنفذين له - مهما كان نوعهم وانتماؤهم ومشربهم - مجرمون مخربون ومفسدون في الارض، وكل ذرائعهم ومسوغاتهم تتهاوى امام نصوص القرآن الزاجرة ونصوص السنة الرادعة وما فيهما من تهديد ووعيد تنخلع له القلوب وترتعد امامه الفرائض واجماع علماء الامة المعتبرين - سلفاً وخلفاً - على تحريم مثل هذا العمل وتجريم فاعليه، والتشديد على حرمة الدماء وترويع الآمنين ونشر الفتنة في مجتمع آمن مسالم، وأي سماء تظل هؤلاء المجرمين ومن وراءهم، واي ارض تقلهم؟ واذا علموا يقينا ان حرمة دم المسلم اعظم من حرمة بيت الله الحرام مع شدة حرمة البيت الحرام، وان من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، كما صح بذلك وبغيره الخبر عن الصادق المصدق صلى الله عليه وسلم. لا اتصور ان يوجد مسلم عاقل ينحاز الى فكر منغلق مرفوض مصادم لصريح القرآن والسنة ويتخلى عن جماعة المسلمين وعامتهم وجمهور علمائهم المشهود لهم بالصلاح والتقوى والنصح للأمة والشفقة على شبابها. ان بشاعة هذا العمل وشناعته وآثاره السلبية الكبرى على الاسلام والمسلمين في كل مكان تجعل عبارات التنديد والاستنكار والشجب مع اهميتها وضرورة رفع الصوت بها - عاجزة عن التكافؤ مع حجم هذه الجريمة النكراء، وقد اكتشفت لنا الايام عن وجود ايدٍ وعقول كبيرة وخطيرة وشريرة من خارج الامة وراء هذه الاعمال، وان منفذيها ليسوا الا ادوات بلهاء مستغفلة سبقت الى حتفها والاساءة الى امتها دون ان تشعر بحجم المؤامرة وقذارتها ولكني اود ان اؤكد ان صدقنا بهذا العمل واستنكارنا له لا ينبغي ان ترفع جانب العاطفة وجانب الحماسة لدينا فتطغيا على صوت العقل والمنطق وتخلا باتزاننا فنتخبط في حلول غير واقعية او اجتهادات خاطئة او احكام تصميمية تبعدنا عن الحق وعن الوصول الى الهدف المنشود وهو معرفة الداء وصرف الدواء المناسب له. وان من الثوابت والمسلمات عند اهل هذه البلاد - حكاماً ومحكومين - انها قامت على تحالف وثيق وامتزاج قوي بين الدين والسياسة، بين القرآن والسيف، بين الشيخ والامير، وان هذا التلاحم العضوي الذي قام على التراضي والاقتناع هو العاصم لها - بعد الله - خلال قرونها الثلاثة الماضية وفي مستقبلها ان شاء الله، ولم يعكر مزاجها أي معكر سوى مكايد اعدائها الخارجين، ولذا فان من يحاول ان يربط ما حدث ربطاً قريباً او بعيداً بفكر هذه البلاد او منهجها فإنه قد أبعد النجعة وغرد خارج السرب، ومثله من يحاول ان يربط بين ما حدث وبين مناهج التعليم، لأن شواهد العقل والحس والتاريخ الطويل والتجارب تؤكد ان السير في هذا الاتجاه سير في غير الطريق الصحيح، ومن سار في طريق غير صحيح فلن يصل الى الحق ولا الى ما تريده الامة، وقد يصل الى ما يريده هو ان كان مراده خلاف مراد الأمة، اقول هذا الكلام ليس دفاعا عن مناهج التعليم، فأنا لست طرفاً فيها ولست محامياً عن الوزارة، وانما لأني اريد ان نصل الى السبب الحقيقي كي نتمكن من علاجه، اما ان ندأب على ان نعلق كل حادث ارهابي على مشجب المناهج فإن ذلك سيطيل امد المشكلة ويبعدنا عن جوهرها ويصرفنا عن التعرف على السبب الحقيقي.
وماذا سيقول المتعلقون بمشجب المناهج عن تفجيرات المغرب واليمن ومصر والجزائر والباكستان واندونيسيا واوكلاهوما وتفجيرات الرياض التي قام بها بريطاني وكندي وغيرهم من الغربيين؟ هل كل هذه التفجيرات سببها مناهجنا؟ لا اظن انه يوجد آدمي يقول بذلك، ثم اني لأعجب غاية العجب من اخواننا الكرام المسكونين بموضوع المناهج من كتابنا السعوديين عندما يصرفون وجوههم عن السبب الحقيقي المعلن، الذي يعلنه الفاعلون بسيرتهم وتاريخهم ويعلنه آباؤهم واهلهم واقاربهم وتعلنه الدولة، وهو ان هؤلاء الفاعلين قد لفظهم التعليم ولم ترهم المناهج ولم يروها، وانسلخوا من مدارسهم في مراحل مبكرة وتوجهوا الى افغانستان وما تزال عظامهم وعقولهم غضة طرية وهناك تلقفهم شياطين الانس وسلكوهم في بؤر مشبوهة ترعاها وتخطط لها جهات كبيرة خفية مهمتها غسل عقول هؤلاء الشباب المتحمسين والمندفعين ببراءة نحو الجهاد والشهادة، ثم برمجتهم واعادتهم على شكل قنابل ملغومة ضد دينهم وامتهم وبلادهم وليست ايدي الاستخبارات الصهيونية ومن معها ببعيدة عن المخطط وغالبية هؤلاء الشباب غافلون مستغفلون، اقول ان هذا هو السبب الحقيقي وهو سبب ظاهر معلن تعرفه الجهات الرسمية وتؤكده سيرة هؤلاء الشباب وتاريخهم، وهو القاسم المشترك المقبول الذي يربط بين هذه الاعمال في العالم العربي والاسلامي مع اختلاف جنسيات ومشارب ومناهج منفذيها، ويؤكده ظهور مصطلح «الأفغان العرب» فهذا الفكر المنحرف الذي نبت وسقي في تلك الجبال في بؤر مشبوهة جدير بأن يقف في وجهه العلماء والمفكرون ورجال التربية. وان يتنادى له الجميع بالدراسة والتحليل وحمل الحلول العاجلة لإغلاق منافذه واعادة تأهيل شبابنا المتأثرين به مع الترفق بهم والشفقة عليهم، لأنهم مرضى محتاجون الى علاج، واما المتورطون منهم في اعمال تخريبية فالكلمة فيهم شرع الله الحكيم ولعدالة الدولة وفقها الله.
وارجو الا يفهم من كلامي عن المناهج اني اقدسها او ارى انها فوق النقد وانها لا تقبل التطوير والتحسين، فهذا امر لا يقوله عاقل، لأن اعمال البشر لابد لها من ذلك، وحركة التطوير والتحسين في المناهج لم تتوقف، ووكالة تطوير المناهج في الوزارة من اكبر وكالاتها، لكني اؤكد على الفرق بين التطوير وبين اتهام المناهج وتحميلها جريمة لم ترتكبها مع ان شهود الاثبات العدول الذين يشهدون ببراءتها يعدون بالملايين منذ ان ولد التعليم والمناهج في بلادنا قبل سبعين عاماً الى هذا اليوم، ولماذا لم تظهر هذه الحوادث الا في السنوات الاخيرة مع ان مناهجنا فيما مضى كانت اكثر كثافة واشد تركيزاً على الجوانب الشرعية والدينية؟! ولماذا - أيضا - لم نواجه المشكلة نفسها مع بناتنا مع ان مناهجهن الشرعية شبيهة الى حد كبير بمناهج البنين، ان لم تكن اوسع منها؟!
ان ذلك كله يؤكد لنا براءة مناهجنا، وان المؤثرات الخارجية المذكورة التي تعرض لها هؤلاء الشباب هي السبب، ومن يحاول الاصرار على اقحام المناهج فإنه يسهم دون قصد او بقصد في تضليل الدولة وابعادها عن الوصول الى العلاج الصحيح. واني لأعتب على بعض احبابنا الكتاب وهم يمارسون انتقائية عجيبة في نقد المناهج، فعندما يتعلق الامر بانحرافات سببها الغلو في الدين لدى فئة قليلة من الشباب فإنهم يربطون ذلك بالمناهج فوراً دون التفات لبقية الاسباب الظاهرة، وعندما يتعلق الامر بانحرافات اخرى ظاهرة ومزعجة وارقامها مخيفة مثل نفق المخدرات المظلم الذي بدأ يبتلع اعداداً لا يستهان بها من شبابنا تعد بالآلاف وليس المئات حسب احصائيات وزارة التربية والتعليم التي نشرتها احدى الصحف المحلية يوم السبت 16/3/1424هـ او احصائية مجمع الامل بالرياض الذي عالج في عام واحد «2041» اكثر من الفي حالة، فما بالك بغيره من المستشفيات، وما بالك بالحالات الكثيرة التي لم تتقدم للعلاج او ظواهر التفحيط والاستهتار بأرواح الناس، او معاكسة النساء ومضايقتهن او التشجيع الاهوج غير المنضبط او غير ذلك من الظواهر السيئة، فلا تجد لاحبابنا الكتاب اي اشارة للمناهج او التعليم، وكأن تلك الآلاف من ابنائنا وبناتنا الذين يسقطون ضحايا لجرائم المخدرات ويخسرهم الوطن ويكلفونه الملايين لعلاجهم وتأهيلهم كأنهم ليسوا من شبابنا ولا علاقة التربية والمربين بهم وبانحرافهم.
وأود ان اختم كلامي بمقطع من مقال قيم كتبه الاستاذ عابد خزندار في زاويته «نثار» بجريدة عكاظ يوم الاحد 17/3/1424هـ تحت عنوان «ولكن من الذي صنع الارهابيين؟»، حيث قال: «والحقيقة التي لا مراء فيها ان هؤلاء الارهابيين ومن ورائهم ابن لادن - وان كانوا سعوديين - لم يتخرجوا كارهابيين من مدارس المملكة وجامعاتها، بل جاءوا من الخارج من افغانستان، وبالذات من المدارس التي اقامتها الاستخبارات الامريكية وجندت لها غاسلي دماغ غلاة نجحوا في تحويل تلامذتهم الى آلات آدمية للارهاب والتدمير، وعادوا الى بلادهم في مصر والجزائر والسعودية يكفرون مجتمعاتها ويتهمونها بالخروج على الاسلام». اكتفي بهذا القدر من هذا الكلام الجميل الذي اظنه لا يخفى على احبابنا الكتاب وانما قصدت تذكيرهم به وبأمثاله، كما اود تذكيرهم ونفسي بمسؤولية الكلمة وبمراقبة الله سبحانه وتعالى والا نكتب الا ما ندين الله بأنه هو الحق والصواب حسب اجتهادنا متجردين من اهواء النفوس ورغباتها، وجاعلين مصلحة الدين والوطن والامة نصب اعيننا، ومبتعدين عن الموضوعات المثيرة التي ربما كانت وقودا مذكيا للتطرف والارهاب مثل: التهجم على الهيئات الدينية او الدعوة او الدعاة او السخرية بهم وبطلاب العلم وبهيئتهم وسمعتهم وشكلهم او غير ذلك مما يعرفه الجميع، وكم عجبت وتألمت عندما رأيت هجوماً غير مفهوم ولا مبرر في احدى صحفنا على الداعية المصري الشاب عمرو خالد، مع انه رجل عصري ارستقراطي بعيد عن التشدد والغلو ومفرط في الانفتاح والتسامح، فالذي لم يرضه عمرو خالد على الرغم من عصرنته ومظهره وشكله فمن سيرضيه من الدعاة؟!
اسأل الله لي ولجميع اخواني واخواتي الكتاب ولجميع المسلمين الهداية والتوفيق وصلاح النية والعمل، كما اسأله ان يحفظ بلادنا وقادتنا وعلماءنا وكل فرد منا وجميع المسلمين من كل سوء ومكروه وان يرد كيد الاعداء في نحورهم ويعلي راية الاسلام في كل مكان.
(* )أستاذ اللغة العربية في جامعة الإمام
وجامعة الأمير سلطان بالرياض
|