* (إيفان ميسلوفيتش)، نبيل رُوسي، ميْسُور الحال، وهو قابع في سريره يحتضر، ويمارس، خواطر يومه الأخير.
* ويحاول الأديب الروسي (تشيكوف) أن يتحدث إلينا عن (يوم في حياة، ايفان ميسلوفيتش) ببراعته المعروفة، حيث تنساب حياة (إيفان) في يومه الأخير، بنعومة، واعتيادية، بالغتين، ولكنهما، مشحونتان بالذروة القصصية في الثنايا والالتفاتات، والعبارات، حتى ما كان تافهاً، وركيكاً، وغير مُهم.
* تنتاب (إيفان) صحوة الموت، ويفتح عينيه، ويطلب رشفات من الماء، ويبتسم للكاهن، وهو يؤدي واجباته الأخيرة نحوه، ويتقبَّل اللوعة، والحزن، في نظرات زوجته، وبناته، ويتلفظ بكلمات، لا يفهمها، ولا يسمعونها، وقد لا تعدو أن تكون محاولات لسانه وشفتيه، للتخلص من جفاف شديد، ولزوجة كريهة، وينظر، حوْله، فيرى أشياء، غرفته الأثيرة، ويلمح من خلال النافذة يوماً، شتائياً، رمادياً، ثقيلاً، ويسمع أصوات، رياح ثملة، عابثة، ويشم رائحة البخور الذي أطلقه الخدم، في أنحاء البيت، ويتخيل، ماذا يمكن أن يكون، خارج الغرفة، وفي أنحاء مزرعته الكبيرة، من توتّر، وترقب، وهمس وحزن، وحسابات، الأحْياء، وهم ينتظرون القضاء المحتوم، الذي يوشك أن ينزل، بسيّدهم.
* وإذ يقدر، (إيفان) هذا، الضجيج الصامت، وذلك الترقُب المشحون، من حوْله، يعلم في داخله، بأنه، وحيد، حقاً، يواجه، حدثاً شخصياً جداً، لا يشاركه فيه آخرون، رغم كل مظاهر الحزن، واللوعة والقلق.
* حضرََ (إيفان) جنائز كثيرة، من قبْل، والتزم سرير والده، وبعض، أصدقائه، وهم يحتضرون، وحَزِن لهم كثيراً، وبكى لفقدانهم، طويلاً، وبين لحظات الحزن، كان يخرج، ليتناول بعض الطعام، ويشعل سيجارة، ويزور صديقاً، ويسْأل عن المحصول، وقد ذهب يوماً إلى منزله، ورأى زوجته متأنقةً قليلاً، واستطاع أن يتغافل عن أحزانه، بعضاً من الوقت، ويمارس واجباته الزوجية، وشعر، بعد ذلك، ببعض من النَدَم، والاحساس بالذنب، وعاد مُسْرعا، ليمارس، واجبات الحزن إلى جانب سرير المحتضرين، في يومهم الأخير.
* الحياة، يا(إيفان)، تمضي، ولا تتوقف، عند سريرك، وسيتخلص الآخرون من أحزانهم، كما يتخلصون، من ثياب العزاء، وستصبح ذكرى خافتة، ذاوية، بعيدة، أمَّا موتك، فهو قضيَّتك الشخصية، الحميمية، تعيشها وحدَك، وتمضي معَها، بلا شريك، ولا رفيق، غير نفسك.
* فيما مضى، من أيام، كان يشعر بأن الموت، حادثة، تحصل للآخرين فحسْب. وقد كان الأمر كذلك فعْلاً لأنه، لم يسبق له أن مَات، من قبْل، وعندما كانت، تمرُّ به خاطرة الموّت، كان يطردها من ذهنه، كفكرة سوداء، ويفرُّ منها إلى مشاغل أخرى، ويؤكد لنفسه أنها حادثة تحصل للآخرين، فحسْب.
* مشروعية الخيال الروائي، تُعطى ل«تشيكوف»، بعض الحق، في أن يروي لنا خواطر اليوم الأخير في حياة (ايفان)، لكن (تشيكوف)، لا يعلم حقاً، ماذاً، ستكون عليه خواطر، اليوم الأخير، وعندما، تعرَّف (تشيكوف) على هذه الخواطر شخصياً، لم يسعفه الوقت ليحدثنا عنها، ولو أسعفه الوقت، ليفعل ذلك، ما كان ذلك ليفيدنا، شيئاً، لأنها خواطر شخصية، حميمية فردية، جداً، كالبصمة الوراثية، لا تتكرر.
* صرخة، الوليد، عندما يأخذ، شهيق الحياة، الأول أمر فردي، خاص، لا يتكرر، وحشرجة الموت، في حلقوم، المحتضر، قضية، شخصية جداً، يبوح بها الإنسان، فقط إلى خالقه، وهو يأتيه، فرداً، شخصاً، رغم حُزن المحزونين وندْب النادبين، وزحام المتباكين.
* سنلتقي مع هذا الحارث الشخصي، الذي نحاول الفرار منه، وستدركنا هذه «القضية» الشخصية، ولو، كُنَّا في بروج مشيَّدة.
* الفرار من الموت، ليس مسافة جغرافية، نركضها، ولكنها متاهات من الغفلة، نتخبط فيها والبروج المشيَّدة التي نتحصن بها، ليست قلاعاً، شامخة، وحراساً أشداء ولكنها، صنادق من الوهم، والخداع للنفس، وإنكار الحقيقة الحتمية المطلقة، والتعامل الساذج، البليد، معها.
* أليست، حرشجات الموت، تعبير اليم، عن سوء التفاهم العميق بين الإنسان، وبين الموت، أكثر قضاياه شخصانية، وأعظم حوادثه حميمية، وحتمية؟
* اللهمَّ، لا تجعلنا من الغافلين، والتائهين، وأعنَّا على تفاهم حميد، رحيم، مع قضيتنا الشخصية.. جداً.
|