Tuesday 10th june,2003 11212العدد الثلاثاء 10 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

تعارض مصالح، لا صدام حضارات..! «2/2» تعارض مصالح، لا صدام حضارات..! «2/2»
د.حسن بن فهد الهويمل

وبصرف النظر عن أسلوب المواجهة فإن هذا الصراع أو الصدام أو التعارض نوقش على عدة مستويات، ومن عدة حقول معرفية، وكل طرف يرى أن قوله الفصل، وأنه لا معقب لحكمه، والقضية كالمذهبية، فيها تابع متعصب، يسعى لاحتواء الناس، ومتمسك غير متعصب، لا يستبدل ما يراه الأدنى بالذي هو خير، ولكنه كمن يقول: لكم دينكم ولي دين، ووسطي منفتح على كل الخيارات، يبحث عن الحق، لا عن مؤيدات الرؤية. وهذه الفئات تصطرخ فوق حلبة الصراع، وبدل التعاذر، والقبول بتعدد الآراء، نشأت بين أبناء الحضارة الواحدة والوطن الواحد العداوات والتصفيات والمزايدات. والخلاف في حقل الأدب (المؤدلج) أشد ضراوة، فلقد تعقبه دارسون ونقاد، تحسسوا عن الصراع في القول والفعل، ورصدوه: واهمين أو متيقنين، أو مفتعلين. ومن النقاد المعاصرين من تعنت في إكراه النصوص الإبداعية، وبخاصة السردية منها، ليجعلها متسعة للصراع الحضاري. ولقد كانت لي إلمامات متأنية حول هذا الموضوع، في دراسة (تحكيمية) اطلعت من خلالها على مماحكات وافتراضات تعجب من صدورها من أناس نعدهم من خيار النقاد، ليس لها من الحق شيء، ولقد كانت من الكثرة والإلحاح، بحيث اغتلى فيها ارتيابي، وكدت أركن إليها شيئاً كثيراً، ولقد انقدحت فكرة (الصراع الحضاري) عند المبدعين حقاً، وعند المقتدرين قولاً وثقافة، فكتبوا، كلاماً مفيداً أو مضراً، وسموا ما كتبوه روايات، وصدّقهم من لا يحترمون المصداقية، والحق أنها كتابات فيها الجيد والرديء، ولكنها ليست من الفن الروائي في شيء. وأبدع الموهوبون مالا غبار على فنيته وجودته واستيفائه لمقومات الفن، ولكنه يفتقر إلى صدق الرؤى، وكل هؤلاء وأولئك نذروا أعمالهم للصراع الحضاري، واتخذوا من الجنس المتفحش متكأ، حتى لقد تصدر (العهر) سدة الصراع، وكانت رواية (الطيب صالح) (موسم الهجرة إلى الشمال) الكذبة السوداء، التي سلم لها الجميع. وإشكالية النقاد التعاقب، بحيث يكون المبتدئ أمير الركب، والتابع متوسعاً فيما سبق. والمبادرة قد تأتي، ولكنها لا تغلب الكثرة، على حد: - (قد قيل ما قيل). فمن النقاد الواثقين المقتدرين الذين لا تأخذهم بالحق لومة لائم من يكون مستبداً، ينهي وقوع الحافر على الحافر، مبتدئاً رحلة العودة إلى مظان الحق، رافضاً التقاطر، ولعل التعاقب على جعل التفحش الجنسي رمزاً أو قناعاً للصراع الحضاري أدق مثال، لافتعاله فيما لحق من روايات، ولقد هيئ لتلك الافتعالات من المسايرين من كرروا الكذب، وأوغلوا في الفحش، حتى كاد يكون صدقاً. ومثلما أوغل المبدعون والنقاد في فرضية الصراع الحضاري في الأعمال الروائية، وتصديق العامة لهذه الدعوى المبالغ فيها، وجدنا من العلماء والفقهاء والمفكرين والخطباء من يحيل كل خلاف مع الغرب على صراع الحضارات، مستعيناً بالخلفيات التاريخية، وعلى رأسها (الحروب الصليبية) والإحالة على هذا التصور على إطلاقه، يحمل كل الأطراف على امتشاق السلاح بوصفه القادر على حسم الإشكالية، وكان بالإمكان تفادي هذا التصور والجنوح إلى السلام والتحرف للمواجهة الإسماعية الإبلاغية، لأن في واحدية الحل تفويتاً لفرص إيجابية، ما كان لها ان تفوت، في زمن وضحت فيه الرؤى والتصورات، أو كادت. ومع الإيمان الجازم بأن العداوة في الدين قائمة، وأنها عصية الحل، وأن اليهود والنصارى لن يرضوا عن مسلم، ولا عن أمة مسلمة حتى يتبعوا ملتهم، إلا ان النصارى في ظل الحضارة المادية المهيمنة دخلوا في العلمانية الشاملة كافة، ولم تكن النصرانية همهم الأول، والدليل على ذلك أن (المملكة العربية السعودية) - على سبيل المثال - تمنع التبشير، وإقامة الكنائس، وممارسة الطقوس الدينية على أرضها، ولا يجد الغربيون غضاضة في ذلك، فيما تمارس (المملكة) نفسها في المقابل دعم الحركات الإسلامية في الغرب، وإقامة المنتديات، وعمارة المساجد، وإنشاء الجمعيات، وطبع الكتب، وتنفيذ المؤتمرات، وتوزيع المصاحف والمطبوعات، ودعم التجمعات الإسلامية، وبعث الدعاة والأئمة. ولولا ما منيت به أمريكا من ضربة قاصمة للظهر في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحميل الإسلاميين مسؤولية ذلك، لكان للحركات الإسلامية في الغرب شأن عظيم، ولكن المكائد والمؤامرات أيقظت أمريكا، لتمنع كل التحركات، وتضيق الخناق على المسلمين، وتطاردهم في عقر دارهم، وفي ذلك تفويت لفرص ذهبية. والعقيدة الإسلامية لم تمنع أمريكا من منح جنسيتها لمن تتوافر فيه الشروط، والحركات الإسلامية تجد من الحرية والحماية في أمريكا أضعاف ما تجده في عدد من الدول الإسلامية، ولولا ما ينتاب الحركات الإسلامية من تعصب مقيت، وما يجتالها من عداوات بغيضة فيما بينها، لكان لها تأثير في الرأي العام الغربي، وهذا التسامح الغربي للتعددية الدينية في إطار مواطنة شاملة يؤكد ان الخلاف مع الغرب لا يحال بجملته على الصراع الحضاري، وهذه المؤامرة الماكرة التي وضعت المشاريع الدعوية تحت المجهر، استبشر بها بعض الإسلاميين، وبخاصة ( الراديكاليون) منهم، وعدوها نصراً مبيناً لهم، وماهي في حقيقة الأمر إلا نسف متعمد للدعوة الإسلامية التي آتت ثمارها، في بلاد يتعطش أهلها إلى من ينقذهم من دوامة الشك والارتياب، ونسف لجسور المصالح المشتركة مع دولة قوية في مؤسساتها ومعارفها وترسانتها العسكرية ونفوذها الأقوى في الهيئات والمجالس التي تشرعن للمواقف العالمية. وما نقوله ونذهب إليه لايعني استبعاد ان يكون هناك صراع وعداوة في الدين، ولا يعني ان نغفل ذلك الجانب، ولايعني التزكية والتلميع لأمريكا، فنحن نعرف كم تجرع العالم من الويلات، وكم لقيت قضايا الأمة العربية العادلة من الاجهاضات، ولما كان الغرب ملة واحدة فقد لعبت من قبل (بريطانيا) ذات الدور في المشرق العربي، ولعبت (فرنسا) ماهو أنكى وأمر في الجزائر، ولعبت (إيطاليا) في ليبيا. والمشرق العربي كحلبة المصارعة، كلما خرج مصارع دخل آخر، وفي كل جولة نقول: هذه هي الضربة القاضية، ولكن المسألة مع كل هذه الجولات الشرسة ليست باللونين الأبيض والأسود، ومن ثم يجب ان نتيح فرصاً للتصورات والخيارات، وان نشتغل في القواسم المشتركة، وأن نمارس الدعوة، ونسمع الآخر كلام الله، ونبلغه مأمنه، فلكل زمان مشروعه الدعوي، ومن أراد المواجهة العسكرية فليعد لها عدتها، ولينفق على التسلح ما تنفقه أمريكا، وكيف تتأتى المواجهة المتكافئة مع دولة اخطبوطية، تنفق على تسلحها أكثر من ثلاثمائة وسبعين مليار دولار، وهو مبلغ فلكي، لم تنفقه ست دول كبرى مجتمعة على تسلحها، وعلى الذين لايرون إلا خيار المواجهة ان يمارسوا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. ومع دعوتنا للتعويل على تعارض المصالح، فإننا لم نغفل تأثير الأصولية في أمريكا، والإحياء الديني، وصعود اليمين المسيحي، ولم نتجاهل الدعم المتواصل لليهود، والعمل على عودتهم إلى فلسطين بدافع ديني، أكد عليه من قبل (ويليام بلاكستون) في كتابه (يسوع قادم) كما لا نجهل الحركة المسيحية التي استخدمت الشبكات (التلفزيونية) تحت مسمى (الكنائس المرئية). ومع التباس الأمور، وتعدد الاحتمالات، فإن هناك دقائق في أمر (الحضارة) و(الدين) لايجوز تجاهلها في سبيل تهييج الرأي العام، وكسب ولائه. ف (الحضارة) رؤية شمولية، فيما يأتي (الدين) نصاً تنظيمياً عقدياً تعبدياً، بلد الحضارة، ثم يكون روحها النابضة، والرؤية الشمولية للإسلام تتجاوز مظاهر العبادة والمعاملات والمرافعات والأحوال إلى أشياء أوسع وأشمل من ذلك، ومن سمات الدين الإسلامي شموليته وشرعيته وانفتاح نصه، بحيث يتسع للنوازل، ويستجيب لمطالب الحياة المتجددة، والتراجع حين يكون تحرفاً أو تحيزاً، لا يكون فراراً من الزحف، وحالة الضعف تستدعي التخفيف والسكينة، وذلك ما جاء به الذكر الحكيم وتحدث عنه فقهاء الأمة في قضية (الجهاد). ومع كل التحفظات فإن (الصراع الحضاري) قد يكون قائماً، ولكنه لايقف حيث يكون التدين والممارسات الدينية. ولنضرب على ذلك مثلاً بالعلمانيتين: الشاملة والتنظيمية المحدودة، واختلاف المفكرين حولهما، بحيث تكون الشاملة عزل الحياة عن الدين، وما دون الشاملة تعني عزل الدولة عن الدين، فالشاملة تمنع الاعتقاد وممارسة العبادة وتحكيم الشريعة، فيما لا تهتم العلمانية التنظيمية في أمر العبادة، والأحوال الشخصية، ولكنها تفضل (الحكومة المدنية) على (الحكومة الدينية)، و(الحكومة المدنية) قد تجعل دستورها إسلامياً وأحكامها إسلامية، ولكنها لا تضيق على نفسها كما (ولاية الفقيه) ومسألة المستويات الحكومية مسألة دقيقة وشائكة، لأنها مختلفة باختلاف المفاهيم. ولقد قيل لتحقيق ذلك الانفتاح (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) وجاء من يستبعد قيام (الدولة الدينية) دون ان يوضح الطرفان مفهومها ومقتضيات هذه المفاهيم، وهل (الحكومة الدينية) معادلة للحكومة العلمانية، أو معادلة للحكومة المدنية؟ وكل هذه الإطلاقات التعميمية الحمقى، لم تضع تصوراً محكماً ومفصلاً، يتحقق معه إظهار الدين، وتحكيم الشريعة، وتحقيق مقتضيات الإسلام التي من أهمها العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والوعظ والتناهي والتذكير، وبتحقق ذلك لايكون هناك ما يمنع من ان تكون الحكومة: ملكية أو جمهورية أو سلطانية: (فدرالية) أو (كنفودرالية) (شورية) أو (برلمانية) (اختيارية) أو (انتخابية) إذ المهم ليس في المسميات والأشكال والإجراءات، ولكنه في المصائر والمآلات والمرجعيات، ومن قال في الدولة (الدينية) أو (المدنية) أو (العلمانية) ثم لم يكن على معرفة دقيقة بالفكر السياسي الإسلامي، فقد يقع في الشبهات، وقد تكون لنا فيما نستقبل من أيام إلمامات موضوعية في السمات الثلاث للدولة، أملاً في كشف النوايا المرتابة، وتحديد الخطابات الجامحة الرعناء، التي تتفيأ ظلال المفاهيم المتعددة.
وما أذهب إليه لايدعو إلى ترك الثنيات، وعلمنة الحياة، وإنما يدعو إلى وضع الأمور في مواضعها، ومعالجة الأحداث على ضوء دوافعها وظروفها وكوامنها، وعلى المؤمن أن يكون كيساً، فطناً، عدلاً، لايجرمنّه كره الآخرين على عدم المصداقية. وحين تفيض مشاهدنا بفرضيات لا أساس لها من الصحة، نغفل عن حقائق، تجد من غفلتنا فرصاً ثمينة للتجذر والتوسع، وخطأ التقدير والتوقيت يفوت على الأمة فرصاً كثيرة، وعلينا، وقد ادلهمت الأمور، وبلغ السيل الزبى ان نتحرف لخطاب يصطحب (تعارض المصالح) بدل (صراع الحضارات)، ولايضع (الأنجلة) أو (القرأنة) الخطاب الفرد، وإذا كان بالإمكان الدفع بالتي هي أحسن، فإن المصير إلى الصدام سبق مفضول، وما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والصلح خير، ولا يتأتى الرفق إلا باستبعاد التوتر وصراع التفاضل والتصدير والهيمنة. وحصر المواقف في خيار واحد مع إمكان التوفر على خيارات متعددة تعنت لا مبرر له.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved