دخلت يوم أمس الأول في قضية تمس الفرق بين الكتابة عن الأفكار والكتابة عن الحياة. لن أخوض في القضية إلى الركب لأني لا أريد أن أطفش قرائي. أتصور أن من يتابع هذه الزاوية هم من أمثالي لا ثقافة ولا أفكار ولا تعقيدات مجرد سعة صدر وبعض المعلومات وشوية آراء تسبب بعض المشاكل. ولكن الإنسان أحياناً يقفز هنا وهناك من باب دفع الملل.
أثناء التفكير في الموضوع ومحاولة تبسيطه، جاء على بالي كتاب العراب لماريو بوزو. لا أنصح بقراءة هذا الكتاب لمن يبحثون عن الأفكار. لأن ما فيه ولا نصيحة. فهو كتاب مكرس للمتعة أو لمن يريد أن يتعلم كيف يكتب رواية. لأن تقنيات كتابة الرواية بارزة فيه مثل أغنية «أبكي على ما جرى لي» لمن يريد أن يتعلم العود.
الكتاب كما قلت كان درساً مهما لي للتمييز بين كتابة الأفكار والكتابة عن الحياة. أشير قبل المضي قدماً في الموضوع أن فيلم العراب «GOD FATHER» المبني على هذا الكتاب فاز في أحد الاستفتاءات كأفضل فيلم في القرن العشرين.. قد تبدو هذه المعلومة عرضية ولكنها في صميم الموضوع إذا لاحظنا أن هذا رأي الجماهير وليس رأي المثقفين أو الأكاديميين الذي يعتمد غالباً إما على النظريات وإما على الادعاء. فالفيلم والرواية قدما رجل المافيا من الداخل دون المساس بحقوقه أي أتاحا له الفرصة أن يقدم حياته أو الوجه الآخر من حياته، الوجه الإنساني منها. فالقارئ ليس قاضياً يصدر حكماً وإنما إنسان يبحث عن سعادة، عن معرفة، عن خبرة. والخبرة هي أهم شيء يبحث عنه الإنسان. كتابة الأفكار لا تتيح للقارئ الوصول إلى أي خبرة وإنما تقرر نيابة عنه ما الذي عليه أن يفعله. تقدم له الحياة معلبة مصنوعة في المختبر لم تستنبت في الأرض. لا قيمة لعاداتك الشخصية لا قيمة لفرديتك.
الذين يكتبون عن الحياة يقلبون الطاولة. فجأة تجد الكاتب داخل بيتك. داخل شلتك. معك في الاستراحة. معك في المقهى. يعطيك الإحساس أن عاداتك اليومية لها قيمة لها احترامها. لأنك تحس أنه يعرفك. يعرف عاداتك، مشاكلك. وكأنك تعرفه من قبل. كأنه من عيال حارتكم. أو قريب لك. حب، مرح، حزن، قصف. كأنه يعرف الذي تخبئه. أما الذي يكتب عن الأفكار فهو يذكرك بأيام الدراسة في الابتدائي. تحس أنه يقول لك: اجلس يا ولد. يبسط سلطته عليك. تخاف منه. يهددك بالعقاب. يدينك. يشعرك بالذنب مع كل سطر تقرأ له. أنت مخطئ دائماً. إذا سافرت مع ربعك توسع صدرك أنت مخطئ. وإذا سهرت مع أصدقائك ساعة أو ساعتين أنت مخطئ. وإذا فصلت ثوب «غالوقته» طويلة شوي أنت مخطئ. عندما تقرأ له لازم تعدل جلستك. تخاف يشوفك «منحني أو مضطجع أو مائل» فيطل عليك من بين السطور صارخاً في وجهك: أقعد زي الناس. كل كتاباته قال ابن الجهمي قال ابن صرصعة. الذي يكتب عن الحياة يتابعه حتى خصومه حتى الذين يكرهونه أو من يعتقدون أنهم يكرهونه.
نتابع بعد غد
فاكس: 4702164
|