الصديق الغالي غازي عودنا بغزواته الشعرية، والروائية، والنثرية المتفاوتة في درجات نجاحها.. شعره كسب جولاته أكثر من نثره وإن كانت اخفاقاته الروائية لا تعد فشلا.. إلا أنها دون شعره تحليقا وتحقيقا لأهدافها الفكرية.. التي مارسها عن جدارة واستحقاق كوزير.. وكسفير اعطى واعطى الكثير..
غازي القصيبي
سعد البواردي
والحديث هذه المرة عن الضفائر وورودها المتدلية الحسناء على صدر سناء.. ماذا قال عنها؟ وماذا قالت عنه؟!
ستة مقاطع تحت عنوان ديوانه.. المقطع الأول:
أوت إلى فراشها
في جيبها وصية
وفي العيون شعلة
غاضبة شهية..
«أوت إلى فراشها صبية»
بعد ان استيقظت من سباتها هرعت إلى أمها تقبل جبينها بكل تحنانها.. وسارعت إلى ابيها تضمْ خده قبل ان تزف إلى حبيبها كما لو كانت تودعهما الوداع الأخير.. صدق حدسها فقد عاجلتها المنية.. كان القدر في انتظارها.. تحولت سناء محيدلي شهيدة الجنوب إلى اسطورة.. إلى عملاقة في عالم بدء يسكنه اقزام.. واشباه اصنام متحركة..
في المقطع الثاني كان الحديث عنها.. الخطاب لغيرها.. والشهادة لها وهي الغائبة الحاضرة..
«سناء.. ماذا تقولين يا سناء؟
اقلامنا تعفنت من الرياء..»
حتى اقدامنا يا صديقي تمرغت في الوحل.. حتى احلامنا تقزمت امام هبوب العاصفة القاصفة.
«لساننا انشق في البكاء
عيوننا الخواء يمضغ الخواء
قلوبنا الحجارة الصماء
ماذا نقول يا سناء؟!»
لا حاجة إلى القول فنحن قوم لا نملك الا البكاء تجاوزته النساء بالتضحية والفداء.. ويختتم مقطوعاته عن سناء بهذا البيت الماتع المانع:
«ويكتب التاريخ في دفتره
المزحوم بالأسماء، والاشياء
اننا ولدنا كلنا.
حتى انتهت سناء»
وقد كتب التاريخ ميلاد شهيدة.. ووفاة شهود تشدهم القيود حول مثواها الأخير..
باب شاعرنا المبدع موصد.. الباب يُطرق.. من بالباب؟ قومي افتحي لمن وراء الباب.. انه باب مدينته:
«مدينتي أنتِ.. اني جئت مرتجفا
من المدائن. صحبي الريح. والهلع
قومي افتحي الباب! أقدامي ممزقة
من المسير. ووجهي السهد والوجع
لم يبق في الكون ميناء يرحب بي
أو خيمة لي.. وللأشعار تتسع»
لماذا كل هذا الضيق من قادم لا وطن له يستوطن؟ أهو مشرد؟ أهو منفي؟ أم أنه ضائع ضل سبيله..؟! الجواب من فمه لها كان قاسيا مر المذاق يجيب على كل التساؤلات المطروحة:
«كل الحدود التي قد كنت اسكنها
تقول: من انت يا هذا؟ وتمتقع
كل العيون التي كانت تطارحني
حباً تُطَل.. وفي اهدابها فزع»
مفردة «تُطَل» بضم التاء وفتح الطاء ربما خانتها الحركات.. انها تشير إلى العيون لماذا لا تُطِل بكسر حرف الطاء؟!
اخلص من قصيدته الجميلة الى واقع عنوانه جمود الحركة.. وهجود البركة.. والنكران للحق المستحق.. وهذا يكفي.
نمر مع شاعرنا القصيبي في شوق لمحطاته.. «قيصر المحتضر» تجاوزناه لأن القياصرة الذين لم يحتضروا بعد كثر هم الأولى بالتوقف.. ولو لساعة موت واحدة:
«وها هي ذي ساعة الموت شعرا
وغيثا حزينا يحاول ان يتجلد
يرفض ان يتقمص شكل الدموع»
لسبب بسيط ان قطراته لمسات فرح تعانق الأرض.. اما الدموع فرسالات جرح تقدم الشكوى حيث لا معنى للشكوى في عالم مسكون بالبلوى:
«وأشرق وجهك
ابصرته الف وجه ووجه
وفي كل وجه كروم.. غدير
وحلم يضوع»
نصيحتي لشاعرنا ان يبصره وجهاً واحداً لا أكثر حتى لا يضيع في متاهات الوجوه الكثيرة ايها يختار.. ربما يحتار والحير عذاب..
«كأنكِ عبر السنين تعلمتِ
في كل «ليلى» الدلال
وفي كل «فينوس» كيف تصير الشفاه
كنار الشموع..»
المهم ألا تكويك.. وتحترق.. حتى الحب لا يتحمل أكثر من دفء يستجيب له القلب دون آهات ووجع..
«قطرة من مطر» مقطوعة وجدانية تفصل بعضها عن بعض صفحتان بيضاوان.. ربما خطأ طباعي لم يستدرك..
«مجرد كلمة حب» دفعنا الفضول لما خلف الكلمة.. قد يكون أكثر.. وقد يكون اغزر.. الاختصار احيانا يؤدي إلى اكثر من معنى.. وارحب من مساحة:
«لو اني احببتك حب القفر المطر
لما احببتك حبا يكفي»
هذا جيد لا يتناطح بشأنه عنزان.. ولكن يا اخي غازي ألا ترى أن الأكثر جلاء ووضوحا ان يكون حب القفر للمطر لا حب القفر المطر..
«أو حب السيف دخول الحرب
لجاوز شوقي شوق السيف»
هذا الحب في كيفه لا اطيقه كيفا.. وقد ارتضي به كمَّا لعدد ما اوغل السيف في رقاب ضحاياه من البشر.. شاعرنا يوغل في اوصاف حبه لحبيبته مختاراً كل الاشياء بما فيها الخوف.. والعنف. والضعف.. والاشياء الجميلة.. أي أن حبه لها يشكل نبض حياة متكاملة بخيرها وشرها.. بأملها وألمها.. أي أنه يحبها بعدد الحركات والسكنات.. هذه يا شاعرنا فوق طاقة التحمل.. ان حبا كهذا يقتل حتى ولو احيا.. لأنه الحب الأعمى وان جاء مشبوب العاطفة..
«سراب» محطة جديدة في مسار الرحلة مع الشاعر غازي القصيبي في ديوانه «ورود على ضفائر سناء»
«كما سفن في الضباب
تؤانس وحشتها. وعماها
فتطلق صفارة.. ثم تصغي لرجع صداها
كتبت القصيدة
لكنها لم تكن عن هواها»
لماذ؟! لأنها بوح عذاب لحلم سرابي خارج.. قال له في صورة حواء «احبك» وما ان اقترب أو اقتربت منه شذية في عطرها حتى تباعدت عنه ولم يعد يراها.. لأنها سراب.. صورة موحية بجمالها حتى ولو كانت ظامئة دون وِرد أو وَرد..
الحب في قاموس فارس الرحلة لا يتوقف عند حدود المرأة.. والجمال.. والصورة السرابية الخادعة.. وانما يتجاوزه إلى ما هو أكثر التصاقا واشراقا.. إلى الوطن. والتراث. والناس. انه يتغنى إلى خليج حبه.. أي إلى خلجات كينونته.. وانتمائه:
«خليج الحب. دك القلب صدري
يقول: «رأيت هذا الحسن قبلُ»
أجل! ابصرته في «العين» عيناً
يزينها.. واين الكحل؟!. كحل.
وقبل رأيته سيفا وديعا
بأهداب «المنامة» يستظل
وقلعا من «صحار» يجوب افقا
فتعتز البحار به.. ويعلو
اجل ابصرته بدرا رفيقا
«بجدة لا يَمل. ولا يُمل»..
وريماً في ربى «قطر» نَفورا
به خفر. وفي النظرات نبل
وثغرا في «الكويت» يذوب شعرا
وتنهمر اللألئ حين يتلو»
على بساط ريح حبه حلق في فضاءات خليجه العربي اشتياقا والتصاقا.. عين «الامارات» «منامة» البحرين.. «صحار» عمان.. «جدة» السعودية «قطر» واخيراً «الكويت» قال لها معانقاً:
«خليج الحب. بعض القول نفل
وشعري الشعر لا يعروه نقل»
حسنت في شعرك.. وفي شعورك.. وفي حب واجب لا شكر عليه لأنه واجب..
من هي تلك التي كاد ان يفقدها؟ لابد من التعرف عليها ولو من خلال وكالات الأنباء لأنها مهمة.. واحيانا لا اهمية للكثير الكثير منها لأنها محرفة.. واحيانا مزيفة.. تَصْدر للبلهاء، ويصدقونها ويضيفون إليها من عندهم..
«سافرت الاشياء إلى افق مسود الاشياء بلا أشياء
كيف اواجه وحدي الدنيا؟!
كيف اروح وكيف اجي؟!
كيف انام؟! وكيف اقوم؟!
وكيف امارس عمل الأحياء؟!»
لأنها صورة شعرية انتهت إلى عبث وهراء لا اجمل من ان تواجهه بإقفال مفتاح المذياع. والتلفزيون. ونسيان سخافة الصحافة.. وان تحاول الاستغراق في سبات عميق لا تفيق منه الا مع اشراقة فجر جميل غير كاذب.. والا فعلى نفسها جنت براقش.. هذا هو الحل..
«السير في المستحيل» ضرب من ضروب المحاولة البائسة اليائسة لأنه مستحيل...:
«تقولين: «قلها» ولو قلتها مرة. مرتين
وعشرا. وألفا.. أيصبح هذا الجليد المعربد في الروح صيفا؟!
وهذه الملالة بين الضلوع اتصبح جمرا به اتدفا
وحبك هأنذا قلته..
غير اني ما زلت ارتشف الموت صرفا»
تعبت.. واشبعني الدهر رمحا وسيفا»
اذا مت هل تكتبين على الماء:
«ارهقه السير في المستحيل فأغفى»
وصلات من قصيدته الرائعة الماتعة املك لها ما يملك لها صاحبها من اجابة لا تزيد عن مفردة واحدة» أبدا المستحيل ومن يسبح في بحره لا يملك الكتابة على الماء. ولا حتى على الحيطان الترابية لأنه يصارع طواحين هواء..
هذه المرة لم يكن سجاله مع المستحيل وانما مع ابنة العشرين.. تلك الوردة المتفتحة في حقل الحياة:
«لقد ادميتِ روحي.. فاستريحي
من الطعنات. يا مأساة روحي
يمر جمالك الوردي فوقي..
كما تمشي النصال على الذبيح»
دراما شعرية لا اعرف العوامل التي نسجت خيوطها.. ووقعت خطوطها.. لابد وان ننتظر السبب:
«أغرك انني احيا غروبي
وانك وردة الفجر الجموح»
حين يعرف السبب يبطل العجب.. من حقها يا صديقي وهي الربيع ان تقبل الخريف الذي تمثله شريك حياة.. دعها دون هجاء والا هجاك وهجرك الحب الحقيقي...
رحلتنا مع شاعرنا القصيبي تقترب شيئاً فشيئاً.. علينا ان نسارع الخطى متجاوزين محطات لا يسمح بها الوقت «الرؤيا» التي تمثل فيها نخلة تنبت التمور.. و«أهذا انتِ» و«لو» مفردة امنيات نلوكها كثيراً كأختها «لست» لا تعمران «بيت».. ومن حسن الحظ ان تأتي النهاية مسك ختام.. لأنها «حكاية مهر الرياح» التي كتبها فارسنا لصغار فلسطين:
«كان اسمه مُهرَ الرياح
كان وسيما ايضا
ومشربا بزرقة كأول الصباح
وكان يجري.. لا تكاد العين ان تراه
الله ما احلاه.. الله ما احلاه»
مقاطع من فقرته الأولى.. يسأل غازي من اين جاء؟!
«هل ولدته ذات فَجْر غيمة بيضاء؟
ام انجبته في الربيع نخلة خضراء؟
ام ان أقصى القمم الشمّاء
في ليلة رائعة قمراء تمخضت عنه.. فجاء.. ذاب؟»
على كل التساؤلات سوف يأتي الجواب دون حاجة إلى سؤال:
«كان اسمه مُهَر الرياح
كان عنيفا جامح الجماح
ويعشق الحرية.. كأنه براءة الوحشية»
إلى هذا الحد عرفناه.. ماذا فعل.. والى ماذا انتهى؟!
«كان يفر مثل اعصار جميل
ويترك الاحجار.. والتراب.. والغبار».. كان الشيوخ يعشقون وجهه.. والصغار له يطربون على وقع صهيل حصانه ووثاق حوافره.. الا ان القبيلة تربصت له كيف تغدر به صارخة في وجه القوم:
«لاب ان يذبح كي نرتاح»
وفي الظلام حاولوا الاجهاز عليه كما يحاول الظلاميون الاجهاز على ضوء النهار بغية حجبه.. وكما يحاول العظاميون خنق مصباح يؤنس وحشتهم ويدلهم على سبل الحركة إلا انهم خابوا جميعاً كان الأقوى.. والمختصر لأنه رمز نهار. وشعار قوة وصحوة وحيوية.. بهذه الحدوتة الشعرية أنهى شاعرنا القصيبي ديوانه الجيد «ورود على ضفائر سناء» وبهذه النهاية السعيدة التي انتصر فيها العصامي على العظامي نكون معا قد انخنا ركابنا في استراحة من اجل راحة نوظفها جميعا لرحلة جديدة قادمة مع فارس جديد.. داخل صومعة الفكر.
ص.ب: 231185 الرياض: 11321 فاكس: 2053338
|