مما أشير إليه في الحلقتين السابقتين أن من الذين كتبوا عن جريمة التفجيرات التي ارتكبت في الرياض من حاولوا الاستفادة من مشاعر السخط الفيَّاضة على مرتكبيها، فاندفعوا يكررون ما كان لديهم من آراء تجاه التوجه الإسلامي، وبخاصة ذلك الذي قام على أساسه حكم وطننا العزيز، وقالوا: إن هذا التوجه هو سبب ما حدث من أعمال إجرامية ممقوتة، وقد يكون وصفهم لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب بما لا يتفق مع الحقيقة نتيجة عدم فهم لها فهماً كافياً، وهناك من جعلوا ما هو موجود في كتب مناهج التعليم الوطني العام مسؤولاً عن وقوع من وقعوا في الفكر الذي أدَّى ببعض معتنقيه إلى ارتكاب تلك التفجيرات وأمثالها، كما أن هناك من تجاوزوا ذلك إلى القدح في فكر العالم الفقيه ابن تيمية.
وقبل إعطاد فكرة موجزة عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب لإيضاح مدى صحة ما وصفها به البعض من عدم صحته تحسن الاشارة المختصرة إلى الموضوعين الأخيرين. قد يكون من الصعب على الكثيرين قراءة أعمال ابن تيمية الغزيرة التي تناولت موضوعات متعددة بعمق وتفعيل، أو تتبُّع مسيرته الحافلة بالنشاط والتي من ملامحها أنه كان في مقدمة الصفوف التي تصدَّت للتتار، وكان لموقفه هذا ولنصيحته القادة السياسيين في بلاد الشام دور كبير في المساهمة بصدِّهم. وقد مات سجيناً متمسكاً برأيه الحر الذي آمن به. غير أنه يمكن أن يعرف قدره وعظمته من خلال ما كتبه عنه علماء مشهورون في طليعتهم - في العصر الحديث - العالم المصري محمد أبو زهرة والمستشرق الفرنسي هنري لاووست.
أما تحميل كتب مناهج التعليم الوطني مسؤولية الوقوع في الفكر المتحدث عنه فإنه يجدر أن تراعى أمور منها:
1- أن من يقرأ كتب هذه المناهج قراءة واعية، ويتدبَّر ما فيها تدبُّراً متأنياً سيجد أن ما اتَّهمها به البعض ليس مبيناً على أسس صحيحة في مجملها.
2- أن من مظاهر الفكر المتحدَّث عنه قيام أصحابه بأعمال موجهة ضد وليِّ الأمر بشكل واضح لأنها تتعارض مع رغبته وأوامره.
وما ورد في كتب المناهج الوطنية يوجب لزوم السمع والطاعة لوليِّ الأمر ما لم يأمر بمعصية.
3- أن خريجي مدارس وطننا الذين تعلَّموا وفق الكتب المقررة منذ عقود هم الذين تعتمد عليهم - بعد الله - مسيرة التنمية بمختلف وجوهها. ولو كان ما في هذه الكتب هو المسؤول عن الوقوع في الفكر المتحدِّث عنه لكان أكثرهم ممن وقعوا فيه.
4- أن كتب مناهج التعليم في كل بلاد العالم ليست وحدها المؤثِّرة في صياغة الفكر، وبخاصة ذي الصبغة السياسية، وإلا لما تعدَّدت الأحزاب في الأقطار التي تجيز تعدُّدها مع أن كل النشء يدرسون منهجاً واحداً.
5- أن الفكر المتحدَّث عنه ليس مما لا يوجد له مثيل أو شبيه في بلدان إسلامية وغير إسلامية. والواقعون في مثل ذلك الفكر أو شبهه، مسلمين أو غير مسلمين، لم يدرسوا الكتب المقررة في وطننا العزيز.
6- أن مرحلة المراهقة من أكثر مراحل العمر تأثراً بالأفكار، وقبل عقود كان من المراهقين في وطننا من يبذلون كل ما يستطيعون ليحصلوا على كتب غير الكتب المقررة لقراءتها. ومن المرجح جداً أن تأثرهم بها كان لا يقلُّ عن تأثُّرهم بالكتب المقررة إن لم يزد عليه، وفي هذه الأيام وصلت وسائل الاتصال إلى ما وصلت إليه من تقدُّم، وأصبح تأثُّر المراهقين بما تهيئه هذه الوسائل من آراء وأفكار أكثر إمكانية من ذي قبل.
وإذا كان هذا هو الوضع بالنسبة لما هو موجود في كتب المناهج الوطنية فإن تأثُّر النشء بأساتذتهم وما يقومون به من طرح داخل فصول الدراسة أو خارجها أمر بالغ الأهمية والتأثير، وحسب توجه هؤلاء الأساتذة يكون توجيه ذلك النشء.
على أن مما يلفت النظر ترديد بعض الكتَّاب انتقاءاتهم لكتب مناهج التعليم الوطني المقرَّرة بصفة عامة، ومن هؤلاء من لم يكلِّف نفسه - كما يقتضي العدل - بقراءة هذه الكتب قراءة فاحصة تستوعب ايجابياتها وسلبياتها على حدٍ سواء. بل اعتمد، فيما يبدو على معرفته بكتب لم تعد مقررة الآن، كلياً أو جزئياً، أو اعتمد على آخرين في حديثهم عما هو موجود ومعتمد فيها.
ومن المرجح أن بعض من ينتقدون الكتب المقرَّرة - وبخاصة في ظلِّ الظروف التي يمرُّ بها الوطن والمنطقة المحيطة به - يكاد ينحصر تفكيرهم الانتقادي في مواد العلوم الشرعية، ولو سئل بعضهم عما يراه خطأ في محتوى أي مادة من هذه المواد لما حدَّد بالدقة ما ينتقده فيها. أفي هذا المحتوى ما هو مخالف لما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؟ لا أظن هؤلاء يرون فيه مخالفة لهما، وإلا لكانوا سبَّاقين إلى ايضاح تلك المخالفة تبياناً للحق الذي ينشده الجميع، ربما يكون فيه ما هو فوق مستوى من قُرِّر عليه من الدارسين والدارسات، وهذا يبرِّر انتقاد تقريره على هؤلاء في المرحلة التي قرِّر عليهم فيها، واقتراح تأجيله إلى مرحلة أخرى من مراحل الدراسة.
بل ربما وجد في بعض الكتب ما يحسن تأجيله إلى مرحلة التخصص الجامعية، أو حذفه نهائياً، لكن أن يكون الانتقاد عاماً دون تحديد دقيق لما هو منتقد فهذا اندفاع لا يسهم في الارشاد إلى اتخاذ الخطوات المناسبة للوصول إلى ما يرجوه الجميع من تطوير وتحسين في العملية التربوية.
ومناهج التعليم وكتبه - مثلها مثل كل أمور الحياة - فيها جوانب قابلة للدراسة، وإعادة النظر، والتطوير، أو التغيير، من وقت إلى آخر.
ومن هذه الجوانب محتوى الكتب من حيث مناسبته لعمر الدارس أو الدارسة، وأسلوب كتابته، وطريقة عرضه. وكل هذه أمور أدركها المسؤولون الأفاضل عن التعليم، وراعوها من المراعاة، ومن أدلة ذلك أنهم أوجدوا وكالة وزارة للتطوير التربوي، وكوَّنوا أسراً وطنية من متخصصين في فروع العلوم المختلفة أملاً في الارتقاء بمستوى التعليم، وسيظل هدف هؤلاء المسؤولين الأسمى - كما هو هدف كل المواطنين المخلصين - تطوير التعليم وتحسين مسيرته. وإذا كان قد تحقَّق ما تحقَّق من نجاح مشكور في هذا المجال فإن الأمل كبير في أن تتضاعف الجهود وتتكاتف الأيدي ليتحقق المزيد من الأهداف المرجوة.
وماذا عن مضمون دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الذي لمحَّ من لمحَّ إلى أنه سبب لوقوع من وقعوا في الفكر المتحدَّث عنه؟ الإجابة عن هذا السؤال يرجو كاتب هذه السطور أن يوفِّقه الله إلى كتابتها في الحلقة القادمة.
|