(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) (1) (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) (2) (وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا) (3) (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) (4) (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (5)
يُجمع علماء التفسير على معنى واحد لقوله تعالى {يّوًمّئٌذُ تٍحّدٌَثٍ أّخًبّارّهّا} فيقولون: يوم القيامة تخبر الأرض بما عُمِلَ عليها من خيرٍ أو شر، وبأنَّ الله سبحانه وتعالى قد أوحى إليها بذلك وأمرها بأن تخبر بما عمل ابن آدم عليها.
هنا يفتح الإنسان العاقل بوَّابة التأمُّل والتدبُّر والتفكير، وهنا ينتبه الإنسان الواعي إلى خطورة الموقف، ودقّته وأهميته، وهنا يقف الإنسان المؤمن بالله عز وجل وقفة التقوى والورع والخوف من شهادة هذا الشاهد الذي لا يشهد إلا بالحق، لأنه عاش ورأى وسمع كلَّ ما صنعه الإنسان بصورةٍ لا تقبل التأويل، ولا تقوم معها دعوات الإنكار وعدم الاعتراف.
«تُحدِّث أخبارها» ومنْ يدري؟، فلربما كان حديثها عن ساكنيها من البشر حديثاً موثَّقاً بالصوت والصورة، بحيث لا يبقى مجالٌ - حينها - لإنكار منكر، أو تنصُّل صاحب معصيةٍ من معصيته، وبحيث تتضاعف سعادة الإنسان المؤمن بربه، المسلم له، لأنه يرى بالصوت والصورة أعماله الصالحة التي قدَّمها في الحياة الدنيا، واحتفظت الأرض «الشاهد العجيب الصادق» بها جميعاً.
ولعلَّ ما ورد في السورة الكريمة من قوله تعالى حكاية عن الإنسان الذي يندهش - يوم القيامة - بما يراه من شهادة الأرض الصادقة الصارمة الدقيقة: {وّقّالّ الإنسّانٍ مّا لّهّا} لعل ما ورد هنا من حكاية صيغة «السؤال «مالها» دليل - من خلال إيحاءِ الآية الكريمة - على أنَّه سيكون سؤالاً مصحوباً بالاندهاش وشدَّة التعجُّب، والمفاجأة، من هذه الأرض التي تحدِّث أخبارها، وإنما يكون هذا الاندهاش والتعجب، والمفاجأة، لأن الإنسان الغافل في حياته الدنيا لم يكن يقدِّر لهذا الأمر قدْره، ولم يكن - في حياته - يعلم بسبب غفلته أنه وهو يتوارى عن أعين الناس بمعصيته وخطئه حتى لا يراه أحدٌ عليها، يضع نفسه أمام جهاز لاقطٍ لعمله بالصوت والصورة يحتفظ بحالته تلك كاملةً غير منقوصة، ويضعها في «ملفِّه» الخاص محافظاً عليها، لا يمحوها على مدى الزمن الطويل الذي يمر بها حتى تُعرض بتفاصيلها الكاملة يوم القيامة {وّيّوًمّ يّعّضٍَ الظَّالٌمٍ عّلّى" يّدّيًهٌ} كما قال تعالى.
لماذا يعَضُّ الظالم على يديه؟ لأنه قد وجد ما عمله حاضراً ولا يظلم ربك أحداً.
الأرض تتحدَّث؟، يا لها من حالةٍ لا يصح للإنسان العاقل أن يغفل عنها.
ولربما يخطر بذهن الإنسان المتّعظ، الراغب في التوبة سؤال: كيف الخلاص من هذا الشاهد الصادق الذي يقدِّم هذه الشهادة العجيبة الغريبة الدقيقة؟!
ولا شك أن الخلاص من ذلك ممكن، بل هو سهل ميسور إذا أراده الإنسان، فالتوبة إلى الله تمحو ذلك كله {إنَّالحّسّنّاتٌ يٍذًهٌبًنّ السَّيٌَئّاتٌ}، {إلاَّ مّن تّابّ وّآمّنّ وّعّمٌلّ عّمّلاْ صّالٌحْا فّأٍوًلّئٌكّ يٍبّدٌَلٍ اللهٍ سّيٌَئّاتٌهٌمً حّسّنّاتُ} فنحن نرى من خلال آيات التوبة، والأحاديث الواردة فيها أنَّها تمسح تلك الصور التي يحتفظ بها ذلك الشاهد الصادق «الأرض»، وتعرض مكانها صور الإحسان والأعمال الصالحة التي حلَّتْ مكانها، وهنا يتحوَّل الأمر من الهلاكِ إلى النجاة، ومن ذُلِّ المعصية إلى عزِّ الطاعة، وشرف التوبة الصادقة.
ولقد شعر «عمرو بن العاص» - رضي الله عنه - بشعور الخوف من عمره الذي قضاه في الكفر بما فيه من المعاصي والآثام التي ارتكبها، وأعلن خوفَه هذا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظةَ دخولِه الإسلام، فهو خائفٌ من تلك الأعباء الثقيلة للحياة الجاهلية التي عاشها قبل تلك اللحظة، ولكنَّ خوفه زال، وقلقه تبدَّد حينما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها.وإذا علمنا - من لغتنا العربية الخالدة - أنَّ الجَبَّ هو القطع الذي لا يترك أثراً، فهو أدقُّ من القطع بمعناه العام، أدركنا ما تصنعه التوبة الصادقة من إزالةٍ كاملة لما تحتفظ به ذاكرة الأرض من معاصي التائبين، اللهم حقِّق لنا من التوبة وقبولها، ما تمحو به الخطايا - آمين -.
إشارة:
كلُّنا مخطئون، لكنْ علينا
أنْ نَروم الهدى ونبغي الرشادا
|
|