*جدة -خالد الفاضلي:
خاصمني كل من سمعني أردد بأن طلال مداح ظاهرة إنسانية، وأشاحوا بوجوههم لأن قناعتي تتراقص بين حدي الشك واليقين حول أيهما أكثر جذباً لجمهور طلال، ملكاته الفنية أم مقدرته الإنسانية على تسجيل مواقف كثيرة من التواضع وخفة الدم في حياته الخاصة وحفلاته الغنائية.
ويسكن ذاكرة جمهور طلال مواقف تسحر من عايشها أو سمع بها ومنهم فيصل الذي عزف لي سيمفونيات عن إنسانية أبوعبدالله بدأها بما سمعه عن قيامه بإعطاء ذهب زوجته لشخص محتاج طرق بابه يخلط سؤاله بإعجابه، ثم انتهت السيمفونية بما يعرفه الناس عن غناء أبوعبدالله مجانا في حي «غليل» وهو من أكثر مناطق جدة فقراً في مستوى الإنسان والبنيان.
ويختصر فيصل وصف ليلة غليل بقوله «خرج أبوعبدالله وفرقته من مبنى تلفزيون جدة متجهين إلى دار أحد الأثرياء لإقامة حفلة خاصة أخذ جزءاً كبيراً من أجرها مقدما، وأثناء السير مرت المجموعة «بغليل» وهو مكان توارث التعب من القدم، فشاهدوا داراً فقيرة تعتليها إضاءات الزينة، «وبعد السؤال والجواب» ادركوا أنها وليمة عرس لشاب فقير يعشق فن طلال وصوته، فقرر أبوعبدالله ان ينسف مشروع الحفلة الخاصة ويغني في هذا العرس الصغير مجاناً ثم جلس على الأرض واشعل ليلة غليل في ذاكرة عشاقه.
تظل ليلة غليل دليلا يربك كل محاولاتي لفصل الجانب الإنساني أو تحييده عن مشوار أبوعبدالله وقوة تأثيره على توسيع دائرة جمهوره المختلف عن جماهير بقية الفنانين، فجمهور طلال يعشق طلال ككل بينما جمهور «محمد عبده، عبادي، عبدالمجيد» يتعاملون مع نتاجهم كتجارب منفصلة بمعنى أبدع محمد في هذه الأغنية ولكنه لم يحقق تكاملا في تلك الأغنية، ربما لأن جمهور طلال لا يملك اطلاقاً الرغبة في طرح نظرية الاستثناء، ويستسقي أعماله كما يفعل النحال ببيت النحل فكل الخلايا لها ذات العسل.
وتمنحني حكايات أكثر تصورا أكبر يشير إلى ان أبوعبدالله كان قادراً على سحق مجموعة من الأسماء وإبعادهم خارج دائرة الأضواء لو أراد، ولكنه رحمه الله كان يؤمن بأن قطع الأعناق أهون من قطع الأرزاق، وكان جمهوره قادرا على تهميش وإحراج وربما طرد أي فنان يقف على خشبة المسرح قبل أو بعد طلال، ومع ذلك لم نسمع عنه انه أراد احراق كبير أو صغير.
واعتاد أبو عبدالله ان يتقاسم داره وزاده مع جمهوره، وكثيرة هي المشاهدات التي تؤكد بأنه كان يفتح لهم الباب بنفسه، ويسكب الشاي ثم يقسم عليهم ألا يذهبوا حتى يشاركوه وجبة العشاء ولو كانت ثيابهم رثة ثم بعد ذلك يجلس على «الكنب» بطريقته المعروفة «يتربع» ويلتفت لك ويقول «هااااات الهرجة».
«وجبنا الهرجة يا أبو عبدالله» وهي خاصمني كل من سمعني أردد بأن طلال مداح ظاهرة إنسانية، وأشاحوا بوجوههم سريعاً قبل أن يسمعوا تكملة الجملة بكلمة ثانياً.
|