يطرح الكثير من المفكرين حق حرية الرأي كسبيل للخروج من أزمات الصراع والعنف في المجتمع العربي، وتنادي لجان حقوق الإنسان المنبثقة من الأمم المتحدة، وهيئات حرية الصحافة بشكل عام بمبادئ حرية التعبير عن الرأي، وأصول الحريات «الملتزمة»، وتعزيز فهم مبادئ الديمقراطية الثقافية وترويج ثقافة التسامح واحترام الرأي الآخر في إطار الحوار السلمي بين الثقافات والأفكار.
وهذا بالتأكيد لا يعني أن يصبح الحبل على الغارب، فلابد من مسؤولية، ويرتبط مفهوم المسؤولية لدى المؤسسات الإعلامية في العالم العربي بمجموعة موانع تحد من إطلاق أجنحة حرية الرأي للتحليق في سماء الفكر، وتنادي السلطات بالتزام حرية التعبير «بالمسؤولية»، وعدم المساس بالثوابت، ونظراً لخلو تلك التعليمات من تفاصيل تعرف الثوابت وتعددها، ضاعت ماهية المسؤولية المطلوبة، وهو ما قد يعكر حالة الامن التي من المفترض ان يشعر بها الناقد أو الكاتب، فالاختلاف حول القصد من عبارة «حرية مسؤولة» لايزال مستمراً، وماذا يعني أن تكون مسؤولة..؟، وما هي حدودها، ولماذا تعاقب حرية الرأي وتحاكم وتحاصر، في حين أن الرأي «المسؤول» لا يسأل عن مرجعية قراره..؟!
وهذه إشكالية تعيدنا لقضية أيهما أحق بالضمان، حرية الرأي أم قرار المسؤول.. وأيهما أولى بالمساءلة، الحرية أم المسؤول إذا اجتهد عن حسن نية في اتخاذ قرار قد يؤثر سلباً في احترامها وتقدير اهميتها الحضارية لدى أفراد المجتمع، وحقوق الرأي والتعبير مفاهيم في الأصل غائبة عن الثقافة العربية، وأي قرار يضعف من قواعد بنائها، سيهد أعالي بنائها من الأساس، وسيعزز من خلفية القمع والاستبداد لدى الفرد، فالحرية في تاريخ جذور ثقافتنا متهمة ومدانة بأقصى العقوبات، ولم تصل في تاريخها إلى حالة من الاعتراف والإيمان انها حق إنساني لا يجوز انتهاكه، ولم تتعامل معها سلطات المجتمع العربي الحاكمة في الماضي كآلية ضرورية لابد منها لتجاوز الخلافات الباطنة والخفية في علاقات القوة في المجتمع، وخلق الفضاء المناسب الذي يضيق على فرص الأفكار في العيش في الخنادق السرية.
وخلفية الحرية الإنسانية بكافة أبعادها في ثقافتنا تعود لأزمان، كانت تحكمها قوانين ومفاهيم العبودية والرق، وهو نظام قديم، نشأ بسبب الحروب والغزوات ونتيجة تسلط مجموعات بشرية على أخرى، فالأسير بمجرد أسره، يصبح شيئاً يتصرف به آسره كيفما شاء، ولمالكه أن ينقله إلى آخر بدون مشورته أو الأخذ برأيه، والحر هو نقيضه، وهو الذي يملك القدرة على التصرف في شؤونه الخاصة حسب ما تمليه عليه إرادته، وحرية الرأي أو العمل حسب المفاهيم العربية الحديثة تنطلق من خلال أصول ذلك المفهوم، ولكن مع اختلاف القيود في العصر الحاضر، التي من شأنها أن تجعله ذليلاً منقاداً لمشيئة غيره، أو أن يتصرف تصرفاً لا يريده، والتحرر من ذلك المفهومين، القديم منها والحديث يتطلب ضرورة ان يكون للإنسان كرامته وإرادته، التي يجب أن تحترم وأن يلتزم المجتمع بضمانها له.
والكثير من المفكرين المسلمين يرون أن المفاهيم الحديثة للحرية جاء بها الإسلام، وعززها، فالحرية هي نقيض الإكراه، والنص الصريح يؤطر هذا المعنى بصورة واضحة وجلية، والدين الصحيح لا يكره أو يجبر الإنسان على اعتناقه.
ولكن تلك المفاهيم تعثرت تطبيقاتها وتوقف تصاعد بنائها الحضاري، فالحرية بمفاهيمها المدينة الحديثة لم تأخذ بعداً تشريعياً في ثقافتنا، ولم يصل الأمر إلى الانتصار لحق إبداء الرأي والنقد في المجتمع، وإلى ما يجعله عرفاً أو تقليدا شعبياً أو طبعاً فردياً يدفع الإنسان للمطالبة به كحق من حقوقه، وذلك لأهميته الاستراتيجية والامنية، بل العكس تماماً هو ما حدث، فالاختلاف حول قدرة الإنسان على امتلاك إرادته، وهل الله سبحانه وتعالى منحها إياه كلية أم جزئية، لم تحسم بصورة قطعية، وهو اختلاف محمود، ولكن الخلافات بعده أحدثت فتنا لا حصر لها وحروبا واغتيالات وسحقا وتغلبا وإكراها، وصار التعبير عن رأي مع أو ضد ذلك الاجتهاد، هدفاً يبرر الإقصاء والإبعاد والاستبداد في ذلك المجتمع الرباني.
كانت حلقات القمع المتبادلة بين الفرق الكلامية وغير الكلامية، معول الهدم الذي قض البناء المعرفي لحرية الرأي من أساسه، فتلك الفرق لم تميز الفرق بين العمل من أجل حق إبداء الرأي، وبين العمل من أجل فرض رأي على أنه الحقيقة المطلقة التي لا تحتمل اختلافا، إنها تلك الأزمة التي لا نزال نعيش في إحدى حلقاتها، فالفرق كبير بأن تطالب بآلية تحكم شرعية حرية الرأي، وبين العمل لفرض رأي أو اجتهاد فردي، يعتقد فيه صاحبه أنه الحق المطلق.
ولعل تواصل صدام تلك الحلقات العنيفة من الإقصاء، هو الذي أعاد معاني حرية الرأي إلى أصولها الصحراوية، فملاحظة المفكرالإسلامي ابن خلدون عندما ذكر في مقدمته الخالدة أن البدو أقدم من الحضر، وأقرب منهم إلى الحرية والشجاعة، وأن الأمم المتوحشة أقدر على التغلب من سواها، وأن النعمة وانحلال العصبية يؤديان إلى المذلة والانقياد للغير والعبودية، يعني تماماً أن مفاهيم الحرية الشرعية أصابها داء النكوص العربي، فعادت إلى معانيها القديمة، فالحر هو الذي يأخذ حقوقه «بيمناه» وبشجاعته وبقدرته على التمرد من قيود العبودية الجديدة، والحر هو الذي يأكل «بمخلبه»، ولا يقنع بوكر دون القيود، وهو الذي لا ينحني أمام سلطة العرف أو القانون أو التشريع، والحرية في تلك الأجواء تعني ذلك التمرد اللامبالي لحياة وحقوق الآخرين، والاعتداء غير المكترث على حقوق الآخرين في الأمن والحرية والحياة، وهو ما يفسر بكل وضوح ظواهر العنف والإرهاب العربية، فمرجعية القيم الصحراوية والعشق الدائم في الخروج، المفرغ من المفاهيم الحديثة للحرية، تبرر له فعل أقصى ممارسات العنف لنيل حريته حسب مفاهيمه الضيقة!..
وهذا الأصل لا يرتبط فقط بسلوك أولئك التقليديين الذين أدمنوا عادة الخروج المتوارث، والإقصاء المستمدة دلالاته من اجتهادات وتفسيرات خاطئة، بل تجده في صور مختلفة، ونماذج متعددة، ترتبط جذورها بثقافة اجتماعية متوارثة، وتجري طباعها في عروق العربي موازية لقوة إندفاع تيار تولعه بالسلطة والإقصاء والتفرد بالرأي، وتظهر أنماطها الاستبدادية في معاني مفرداته العربية التي لم تكتسب صيغها أطراً قانونية وشرعية، وهو ما أدى لتلاشي صفة الالتزام من دلالاتها ومقاصدها، وهي بكل تأكيد نابعة من جذور شخصية العربي المتمردة مهما تعددت خلفياتها السياسية أو الفكرية، لذا عندما نسمع مفكرا محليا مهما كان توجهه يتحدث عن حرية الرأي «المكفولة»، فيجب ألا نأخذ أقواله على ظاهرها، وأنه بالفعل يطالب بحق التعبير والرأي من خلال تشريعات وقوانين لا تنتهك، لأنه ربما كان يرمي إلى حرية رأي من خلال مفهوم «الكفيل» الذي يملك حق إنهاء وجودها «بفيزا» خروج بدون عودة، إن حدث..، وتصادمت منافعه الذاتية مع الرأي الآخر.
|