يبدو أن مقال الأسبوع قبل الماضي (24 ربيع الأول) بهذه الصحيفة والذي كان يحمل عنوان «نظرية جديدة تكتشفها أمريكا: الإدارة بالإرهاب» قد أخذ مداه، وتناقلته شبكات الانترنت، وأخبرني الكثير من مختلف شرائح المجتمع أنه وصل اليهم عبر أقنية ورسائل الكترونية.. وربما فهمه البعض، وربما لم يفهمه البعض.. وأود هنا أن اطرح عدة نقاط أساسية لمنع الالتباس وتوضيح المغزى الأساسي للمقال..
أولاً: لو خيرت الولايات المتحدة الأمريكية بين ان يكون الإرهاب على ارضها وداخل حدودها، أو خارجها وفي منطقة بعيدة عنها لاختارت ان يكون الإرهاب بعيداً عنها.. وهذا ربما يكون توجهاً طبيعيا لأي دولة.. ولكن ربما يأتي في مصلحة أي دولة منها امريكا ان تدفع ببؤر الإرهاب الى الخارج بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ وسلطة.. وهكذا فإن تفجيرات الرياض أو الدار البيضاء أو غيرها من الأماكن الأخرى.. يصب في اطار هذه المصلحة.
ثانياً: ان من مصلحة الولايات المتحدة أن تخلق احداثاً، وتهيئ ظروفا، وتوجد مناسبات في أي مكان في العالم، من أجل أن تتورط دول ومؤسسات ومجتمعات في ملابسات هذه الأحداث، أو أن تعمل الولايات المتحدة مباشرة على أن تورط دولاً ومؤسسات ومنظمات في موضوع الإرهاب.. وتسعى من خلالها الى توحيد العداءات، وتخلق من أكبر قدر ممكن من الدول والمؤسسات والجماعات جبهة تقف مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفق مقولة «معنا أو ضدنا» التي نادى بها الرئيس الأمريكي جورج بوش بعيْد الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
ثالثاً: وهناك نقطة جوهرية في هذا السياق لم يفهمها أو يتفهمها بعض قراء ذلك المقال.. وهي أن العمليات التخريبية التي حدثت في الرياض من خلال مجموعة من الأفراد بغية ايقاع خسائر فادحة في مصالح الولايات المتحدة لم تتم حسب ما اراده المخططون، وبالعكس فقد جنت الولايات المتحدة أكبر فائدة من هذه الأحداث على المستوى السياسي والاستخباراتي والعسكري.. فقد اضطرت كثير من الدول العربية والإسلامية إلى فتح علاقات ثنائية في تحقيق واسع مع أطراف وأجهزة حكومية في منطقة الشرق الأوسط.. وليس أدل على ذلك من زيارات متكررة أو زيارات أولى لعدد من هذه الدول من كل من رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ورئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية.. وقد ساهمت أحداث الرياض في اضطرار كثير من دول المنطقة الى التعاون الأمني في سبيل فك الكود الإرهابي الذي هدد أمن مواطني ودول المنطقة.. كما ان هذه التفجيرات التي أودت بحياة عدد من مقيمي ومواطني المملكة بشكل خاص ألَّبت كل أفراد الشعب السعودي ضد جماعات ومنظمات دولية وصفها المجتمع الدولي بأنها إرهابية.. وهكذا ارتد السحر على الساحر، وبدل التفكير الذي كان يتمناه مخططو ومنفذو هذه الأعمال التخريبية في ان يقف العرب والمسلمون في صفوفهم، سجل العالم العربي والإسلامي أكبر تظاهرة شعبية ضد موضوع الإرهاب.. وأصبحت المؤسسات الرسمية والجماهيرية مؤيدة لأي إجراء داخلي أو خارجي أو دولي ضد هذه المنظمات.. وهكذا فقد ارتكبت هذه الجماعات خطأ استراتيجياً بضربها المملكة العربية السعودية، الدولة التي تحتضن أطهر بقعتين على وجه الأرض، والدولة التي نذرت كل امكاناتها في خدمة الحرمين الشريفين.. وهي معقل الأمن والأمان للمواطنين والمقيمين على هذه الأرض.. ومحاولة ضرب هذه الدولة يعني أن النظرية الدينية التي كانت تغلف نوايا وأهداف المنظمات الدولية قد انتثرت وتبعثرت وأفلست.. ولم يبق منها أدنى حجة يحتكم اليها مسلم عربي عاقل.. وهكذا فقداستطاعت الولايات المتحدة ان تستثمر هذه الأحداث التي زرعها أفراد وغذتها منظمات في تفجيرات الرياض والدار البيضاء لصالحها، ولموقفها من الإيديولوجية التي تغنت بها عن الإرهاب..
اما مفهوم «الإدارة بالإرهاب» فقد أشرت اليه كمفهوم جديد انتظم السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر.. ومن المعروف ان العلاقة بين الإدارة والأزمات تتمثل في كون أي أزمة تنشأ في أي دولة أو منظمة أو جماعة تحتاج الى فريق يعمل على إدارة هذه الأزمة بالطرق العلمية والمنهجيات الملائمة.. وهذا يسمى إدارة الأزمات.. ولكن هناك لبس أحياناً مع مفهوم آخر هو الإدارة بالأزمات، ويعني ان الأزمة تصبح أداة فاعلة في اطار مفهوم الإدارة بشكل عام.. أي أن الأزمة تصبح وسيلة في سبيل ادارة عمل معين أو شركة او جماعة أو حتى دولة.. فافتعال الأزمات يصبح هدفا مطلوبا من أجل ان يتحقق بقاء منظمة او استمرار نظام سياسي أو مصالح اقتصادية.. وقد ضربت أمثلة بنظام صدام حسين في محاضرات ومقالات سابقة في كونه افتعل الأزمة تلو الأزمة من أجل بقائه في سدة الحكم.. وفي رأيي المتواضع وهذا ما طرحته باختصار في مقال الأسبوع قبل الماضي ان الولايات المتحدة تعمل حاليا على إدارة العالم من خلال الإرهاب.. أي انها فطنت الى نظرية ومفهوم «الإدارة بالإرهاب» كوسيلة جديدة للضغط والمناورة والتكتيك بهدف تحقيق مصالح استراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا هيأت الجماعات التي كانت خلف تفجيرات الرياض والدار البيضاء فرصة لا تعوض بأي شكل من الأشكال للولايات المتحدة أن تستمر في إدارة شئون هذه المنطقة بحجة الإرهاب، ومكافحته على الصعيد الرسمي والشعبي.. وعندما ناديت بمفهوم «فتش عن الولايات المتحدة» في تفجيرات الرياض، فإنني اقصد فتش عن مصالح الولايات المتحدة في هذه التفجيرات.. فقد استثمرتها لخدمة مصالحها في المنطقة والعالم.. وبالمناسبة كلما حدثت تفجيرات اخرى سواء في المملكة أو في دول عربية أو إسلامية أو حتى في دول غربية ستكون هناك ضريبة ندفعها نحن السعوديين والعرب والمسلمين لصالح النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه الولايات المتحدة.. فهل هناك شخص آخر غير بن لادن أو منظمة أخرى غير القاعدة قدمت وخدمت مصالح الولايات المتحدة أكثر من أي شخص أو منظمة في العالم، اليوم او فيما مضى خلال الخمسين عاما الماضية؟ لا أظن ذلك.. واذا كان عدوي الأول يقدم لي اكبر مصلحة تخدمني.. فأهلاً بهذا العداء.. ومرحبا بهذه الاستعداءات.. وفي المقابل اذا كان هذا الشخص أو هذه المنظمة تدعي بأنها صديق لنا وتخدم مصالحنا وعروبتنا واسلامنا وتخطط وتنفذ احداثا ترى بأنها تسعى الى تحقيق مثل هذا الهدف، ولكن ما وجدناه من نتائج عملية هو عكس ذلك.. فنصبح في موقف مضاد.. وجبهة عدائية لمثل هذه التوجهات..
لقد نجحت الولايات المتحدة بفضل هذه السلوكيات المتطرفة ان تضع العالم كله بما فيه العالمان العربي والإسلامي مضطراً الى الوقوف الى جانبها ومساندتها في حملة مكافحة الارهاب.. واصبح العالم معها وفي صفها.. فكم تقدر هذه الخدمات الجليلة التي قدمتها هذه المنظمات للولايات المتحدة أو لغيرها من الدول بحجة الدفاع عن الإسلام.. ولكنها انتهت حتى هذا اليوم بأضرار وإيذاء للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
( * ) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال- أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود
|