|
|
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا{يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا اتَّقٍوا اللهّ حّقَّ تٍقّاتٌهٌ وّلا تّمٍوتٍنَّ إلاَّ وّأّنتٍم مٍَسًلٌمٍونّ} [آل عمران: 102] ، {يّا أّيٍَهّا النَّاسٍ اتَّقٍوا رّبَّكٍمٍ الذٌي خّلّقّكٍم مٌَن نَّفًسُ وّاحٌدّةُ وّخّلّقّ مٌنًهّا زّوًجّهّا وّبّثَّ مٌنًهٍمّا رٌجّالاْ كّثٌيرْا وّنٌسّاءْ وّاتَّقٍوا اللّهّ الَّذٌي تّسّاءّلٍونّ بٌهٌ وّالأّرًحّامّ إنَّ اللَّهّ كّانّ عّلّيًكٍمً رّقٌيبْا } [النساء: 1] ،{يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا اتَّقٍوا اللهّ وّقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا (70) يٍصًلٌحً لّكٍمً أّعًمّالّكٍمً وّيّغًفٌرً لّكٍمً ذٍنٍوبّكٍمً وّمّن يٍطٌعٌ اللّهّ وّرّسٍولّهٍ فّقّدً فّازّ فّوًزْا عّظٌيمْا } [الأحزاب: 70-71]. واشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اما بعد: ففي زمن الفتن يكثر الكلام، ويشتد الجدال، فترى الألسن، قد أطلقت تفتك في الناس، في دينهم وعقيدتهم واخلاقهم وأعراضهم، ويصل ايضاً فتك الألسن إلى حد النفوس، فقد جاء وصف اللسان بأنه أشد من وقع السيف في جملة من الأحاديث منها حديث عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان أشد من وقع السيف». قال القرطبي - رحمه الله - «وذلك بما ينشأ عن القول من النهب والقتل والمفاسد العظيمة»، وفي الحديث الآخر عن ابي هريرة - رضي الله عنه - ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال:« ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف»، فأخبر انه ستحدث فتنة صماء بكماء عمياء، يعمى الناس فيها عن الحق فلا يرون من الفتنة مخرجاً، ويصمون عن استماع الحق فلا يقبلون نصحاً ولا إرشاداً، ولا ينطقون ايضاً بالحق نصحاً وإرشاداً. فهذا شأن هذه الفتن، وفي كل فتنة من هذا المعنى العام ما فيها، ومصداق الخبر بأثر اللسان في الفتنة هو الواقع فإن حجم القول يزداد، ويصبح ألوانا، تقلب الناس وتجعلهم فرقا شتى والواجب على العبد أن يمسك لسانه إلا بالحق والعلم والهدى، فإبانة الحق واجب في كل حين بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد وذلك يقتضي البصيرة الشرعية والحكمة في الأسلوب والوسيلة. أيها المسلمون: إن الذي يستقرئ الواقع في هذه الايام يجد عجباً من إطلاق بعض الناس ألسنتهم واقلامهم بدون خوف من الله او رادع من خلق او مراعاة لمقاصد الشرع ومصالح الأمة او اعتبار لحرمة النفوس والاعراض ولو فقه هؤلاء مسؤولية الكلمة لكفوا ولو علموا ان الكلمة تدخل الجنة او تدخل النار لوقفوا، فرب كلمة يهوي بها صاحبها في النار سبعين خريفاً، ففي الحديث «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً ترفعه في الجنة درجات». يستهين اناس بألسنتهم فيتكلمون عن التفجير الآثم الذي وقع وعن نحوه من الاحداث حمداً ومدحاً، او دعوة لمثله، ولا يفطنون لأثر قولهم وان الحامد للجرم على خطر عظيم، والداعي إليه كفاعله. وفي المقابل ثم اقوام اتخذوا من إنكار التفجير مركباً للطعن في دين الأمة وعقيدتها، وعلمائها، وصالحيها، ومناهجها التعليمية، واهل الحسبة فيها. ولم يرع اولئك مسؤولية الكلمة بل اطلقوا لألسنتهم العنان في جهل وظلم، ومن جمع بين الجهل والظلم فقد ضل ضلالاً مبيناً. وإنه إن كان من القول موجهاً لهؤلاء بحفظ ألسنتهم، فإن القول ايضاً يجب أن يتوجه الى جمهور الناس ممن يتلقى القول ويستمع إليه. أيها المسلمون: إن هؤلاء المتكلمين والكاتبين الواقفين على طرفي نقيض يستخفون الناس ومن استخفوه اردوه، وكم طاشت عقول واحلام بكلام يسمعه الإنسان فلا يقر له قرار. والعاقل لا يستخفه القول بل يثبت على الحق، ولو زخرف اهل الباطل باطلهم بألوان من الزيف، ومن قديم استخف فرعون قومه فأطاعوه، قال شيئاً لا تقبله العقول السليمة فزعم الربوبية وهو عالم بكذب نفسه {فّاسًتّخّفَّ قّوًمّهٍ فّأّطّاعٍوهٍ} [الزخرف: 54] استخف عقولهم بما ابدى لهم من هذه الشبه التي لا تسمن ولا تغني من جوع فلا تحمل شيئاً من الحقيقة، ولا تدل على حق، ولا تصرف عن باطل، وانما هي شبه مضللة، واقوال صارفة عن الحق داعية الى الباطل، لا تروج الا على ضعفاء العقول. حتى وصل به الحال إلى قوله {أّنّا رّبٍَكٍمٍ الأّعًلّى" } [النازعات: 24] ، والعجب ليس من كونه استخف قومه فحسب، ولكن العجب من طاعتهم إياه. فهم قوم لا معقول عندهم، وإنما هم اتباع كل ناعق، فمهما قال فرعون اتبعوه لا يزنون قوله ولا ينظرون هل هو حق او باطل. واستخفاف اهل الزيغ والانحراف من ذوي الافراط والتفريط أهل الغلو واهل التفلت، استخفافهم بالناس غير مستغرب فهم يجتهدون في عزل الناس عن المعرفة الحقة، ثم يلقون في عقولهم ما يشاؤون فيذهبون بالناس ذات اليمين وذات الشمال. ولذلك فإن الله سبحانه يقول {فّاصًبٌرً إنَّ وّعًدّ اللهٌ حّقَِ وّلا يّسًتّخٌفَّنَّكّ الذٌينّ لا يٍوقٌنٍونّ } [الروم: 60] ، لا يستخفنك الذين قل إيمانهم، وضعفت بصيرتهم فخفت بسبب ذلك عقولهم، لا يستخفك هؤلاء فإنهم ان استخفوك ذهبوا بك كل مذهب، وحملوك على عدم الثبات على الاوامر والنواهي والنفس تساعدهم على ذلك. ولكن الزم الحق وصل حبلك بالله واصبر على دينه مهما طال الطريق. ولقد استخفنا اقوام اليوم فارادوا الذهاب بنا كل مذهب فمن قوم يدعوننا الى الخروج على احكام الشريعة بالطغيان والغلو ومخالفة منهج السلف الحق ومنازعة الامر اهله وتجاوز علماء الملة بما قد يوصلهم الى المروق من الدين، ومن قوم يريدون علاج ذلك الداء بالمروق العام من الدين والتفلت من آدابه، والتمرد على قيمه واخلاقه، وكل فريق يطرح من الشبه المضللة ما قد يكون سبيلاً للزيغ والانحراف، والنصيحة إنما هي في لزوم الوحي {وّاعًتّصٌمٍوا بٌحّبًلٌ اللّهٌ جّمٌيعْا وّلا تّفّرَّقٍوا} [آل عمران: 103] ، والمؤمن العاقل لا يعلق نفسه بالآخرين ممن لم يعرفوا بعلم ولا هدى بل تجده لا يزال دوماً يصدر في قوله وفعله وسلوكه عن العلم والهدى، ومع اهل العلم والهدى. فهو ليس إمعة يتقلب دينه ورأيه بتقليبه القنوات او ورق الصحف والمجلات فطوراً على رأي فلان وطوراً على رأى فلان، بل قد لزم غرز الهدى والدين فصد جيوش الشبه مغلولة مغلوبة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:« لا يكن احدكم إمعة إن احسن الناس احسن وإن اساؤوا اساء ولكن وطنوا انفسكم ان تحسنوا اذا احسن الناس وأن تجتنبوا الإساءة إذا أساءوا»، وثم موقف للإمام مالك - رحمه الله - يدل على أن العاقل لا يسلم نفسه للآخرين ويجعل دينه هدفاً ترمى إليه الشبه والشكوك بل لا يزال ثابتاً صاحب يقين وهدى فقد جاءه رجل من المبتدعة فقال المبتدع:« اسمع مني شيئاً اكلمك به واحاجك واخبرك برأيي». قال مالك: فإن غلبتني قال: إن غلبتك اتبعني، قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه، فقال مالك، يا عبدالله: بعث الله محمداً بدين واحد واراك تنتقل من دين الى دين، قال: عمر بن عبدالعزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات اكثر التنقل». ( * ) الأستاذ المساعد في كلية الشريعة بجامعة الإمام - إمام وخطيب جامع الراجحي بحي الملك فهد بالرياض |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |