في العراق صحونا فوجدنا أنفسنا في غير بلدنا !.. أين؟. ما الذي حدث؟.. ماذا سيحدث؟. قطاع خاص منفلت يعمل على قوارب في بحر هائج. وليس ثمة بائع ومتبضع، فالجميع يبيعون ويشترون بالأفكار والأشياء والإنسان أيضا. وقوات التحالف تتجول كأنها مخلوقات هبطت من القمر.
ظلام حالك دام ثلاثين عاما لم نكن نرى فيه سوى وجوه مكررة الملامح تتناسل وتتكاثر بالانشطار كالأميبا او منسوخة عن بعضها البعض. السمات نفسها والأقوال نفسها والوعود تتمطى وقاعة المتفرجين مظلمة وليس فيها سوى حزمة ضوء في عمق المسرح ينقلها المخرج من ممثل الى آخر.. التدخين ممنوع والكلام ممنوع والهمس ممنوع والعطسة ممنوعة والتنفس مكرمة من مكارم القائد الضرورة.
وحين هبطت المخلوقات من المريخ أزيح سقف مسرح العراق دفعة واحدة رأينا ستائر المسرح تحترق والخشبة مهشمة والممثلين العتاة عراة ضامري العضلات يهربون حاملين حقائب الدولارات باتجاه سراديبهم السرية المعدة سلفا..
والمتفرجون متشابكون بالأيدي والكراسي والألسن وسمفونية الرصاص والانفجارات تخلط الأصوات فيضيع المغرد والنابح والصاهل والمطرب والراغي.
وفي السماء تتجول الأباتشي وحاملات الدبابات والصبية يلعبون بأشرطة الرصاص وثمة حزمة أعواد من البارود تشتعل بين أيدي الأطفال وكانوا يظنونها قصبات امتصاص السوائل من قناني المرطبات.
واختفت الإذاعة والتلفزيون والكهرباء وخلت المدارس ومؤسسات الدولة ومقرات الحزب المخيفة من كل أشيائها وحلت محلها النيران وما تساقط من أيدي النهابين والمحرومين كما رأينا بدهشة قصور قائد الجمع الشره تدخلها الناس ناقلة حيازة أشيائها الثمينة المذهبة والمفضضة لتحل محلها دبابات ومدرعات ومروحيات قوات التحالف.
وما لبثنا أن سمعنا إذاعة واحدة تبدأ بثها ب.. هنا إذاعة شبكة المعلومات لقوات التحالف تذيع نداءات الى المواطنين وتعدهم بالحرية والديمقراطية والتعددية وتصف صدام حسين بالطاغية والملعون بعد ان كنا نبدأ بلفظ اسمه ذاكرين عددا من الصفات المقررة قانونا وناهين لفظ الاسم بمجموعة من الأدعية التي خلعها الناس على الأنبياء والخلفاء والحكام والسلاطين على مر العصور.
ولا أحد يغتر فيظن ان له القدرة على تخيل ما حدث ويحدث ولا يشتط الخيال بكاتب فيدعي انه يتمكن من نقل جزء واسع من بانوراما الزلزال العراقي الى أي إنسان خارجه كما يمكنني ان أتحدى أي مخرج من فطاحل الإخراج السينمائي والتلفازي في العالم ان ينقل بفلم أو مسلسل الهزة العراقية بكل آفاقها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والنفسية والسياسية والتي هوى فيها العراق الحبيب فقد تجاوزت الهزة درجات مقياس رختر وعلى العالم ان يفكر بإيجاد مقياس خاص لمتغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلا شريطة ان يكون المخترع قد عاش الزلزال داخل العراق لحظة بلحظة.
الآن في هذه اللحظة ثمة ألف سؤال في ذهن العراقي ولا حقيقة لديهم سوى ان الأمريكان يحتلون العراق حاملين بأيديهم أوراقا ملونة يقولون عنها انها تزخر بأحلام العراقيين التي سيساعدون على تحقيقها أهمها الحرية والديمقراطية والرخاء وإزالة آثار الطاغية. ومازال مذيع شبكة المعلومات أحمد الركابي ينبهنا انه يتحدث من خيمة صغيرة ولأسباب فنية فانه يسجل ساعة واحدة من المعلومات والنداءات والأغاني ويكررها علينا على مدى أربع وعشرين ساعة ومن بين ما يكرره ان قوات التحالف ستدفع لرجال الشرطة الجدد الذين حدد صفاتهم وأزياءهم (دفعة طوارئ ) قدرها (20) دولاراً أمريكياً ليزيد من حيرة أكثر من 800 ألف موظف مدني لم يتسلموا رواتبهم حتى الآن وتذكرنا لفظة (دفعة طوارئ) بلفظة سابقة هي (مكرمة من القائد المفدى) يطلقون على أي حق يحصل عليه العراقي أو شريحة من العراقيين.
أما أولئك الذين أودعوا أموالهم في المصارف المقفلة على الخراب وسخام النيران فلا يعرفون كيف ومتى يسترجعون حقوقهم؟
وفيما تتسابق الأحزاب والفعاليات السياسية التي وصل عددها حسب آخر إحصائية الى 68 حزبا وتشكيلا على إيجاد مقرات لها فيحتل بعض مقرات الحزب أو يستولي على بنايات مؤسسات ودوائر الدولة.. فيما يحدث ذلك يتساقط العشرات من القتلى والجرحى لأسباب يصعب إيرادها ولكنها تقع ضمن أي سبب يمكن تخيله مهما كان أسطوريا.
فاذا تصفحنا الإصدارات الجديدة من الصحف فاننا سنندهش من معرفة أسماء كتاب كانوا يصولون ويجولون في صحف النظام او في إصداراته الإعلامية والثقافية الأخرى تلك التي لا تصدر الا وعلى رئاسة مجلس إدارتها (فطحل الصحافة الأوحد الأستاذ الفاضل نجل راعي العلم والعلماء والفنانين والمفكرين والأدباء والمهندسين والأطباء والمناضلين ... إلخ) ومازالت تختفي كل يوم حجرة من حجارة الرصيف تحت صحيفة جديدة.
وحين انشغل الناس أياما بهالة رجل اسمه محمد الزبيدي الذي نصب نفسه محافظا لبغداد مدعيا بان الوجهاء انتخبوه وهم يعلمون ان لا وجيه في بغداد أو سواها غير الوجوه التلفزيونية ذوات الألقاب والرتب والأدعية والوصايا والأساتذة الفضلاء والمذيعين والمذيعات في مثلث القنوات العراقية حينئذ تفاجأوا باعتقال الزبيدي وهم يتزاحمون في نادي العلوية الذي اتخذه مقرا له أيطلق منه وعودا لا حصر لها فخابت الآمال الجديدة كما خابت سوابقها. ومن بين ما أطلقه من وعود أسطورة تقول ان جدول الرواتب الشهرية للموظفين سيكون حده الأعلى 800 ألف وأدناه 150 ألف دينار شهريا. ولم يصحوا الا على ان السلطة الوحيدة بيد كارنر وبرا يمر وبربارة واسماء جديدة عصية على الحفظ. وبقي الجواب (لا أدري) معتادا على أي سؤال يطرحه العراقي حتى أحجم عن طرح أي سؤال بعد أن تطورت ال(لا أدري) الى قهقهة متهكمة ومخجلة.
واستمرت الأحاديث السائدة أو تناقل أخبار أفاعيل شبكة النظام السابق والرئيس المخلوع وقوائم أسماء المطلوبين للعدالة تتخللها ضحكات على نكات مرة عن الصحاف وغيره وكانت آخر نكتة لم تضحكهم كثيرا هي ان طارق عزيز سلم نفسه لكي يحصل هو نفسه على الـ200 ألف دولار مكافأة القبض على المطلوبين الخمسة والخمسين وان صدام حسين مازال يفاوض قوات التحالف لتسليم نفسه وشرطه الوحيد هو ان يزيدوا مبلغ المكافأة ولو بدولار واحد لكي يبقى متميزا عن غيره حتى آخر لحظة في حياته.
هذه هي صورة العراق كما يبدو لمن هم في الداخل ولا ندري كيف يبدو لمن هم في الخارج الا ان كل أولئك الذين يمتلكون من قدرات استبطان هذه الأوضاع يعبرون عن تفاؤل بالآتي مستشهدين بقدرة العراقي الكامنة بعد (عودة الوعي) فالسدود التي بناها النظام السابق لم يسبق لها مثيل في التاريخ وبعد ان أزيحت فإنها لن تعود ابدا حتى ولو حاولت أقوى الأنظمة إعادتها.
ورغم الشكوك التي يضمرها العراقي لكل التيارات والأحزاب السياسية التي كانت تعمل في الخارج وعادت لتتخذ لها مكانا في الخارطة السياسية فانه يؤمن بان للزمن قدرة على تشذيبها ولاسيما أولئك الذين كانوا يعملون سرا وبحذر شديد في الداخل من أجل إشاعة الوعي وإدامة الأمل بحياة كريمة راضية. إذ ان ظهور الروابط والحركات والتشكيلات السياسية السرية التي كانت تعمل في الداخل اصبح مبعث أمل في نفوس العراقيين ولاسيما حين راحت تلك الفعاليات السياسية تصدر بياناتها وتوضح مواقفها وأهدافها وتاريخها النضالي السري. كما ان حضور العراقي المؤتمرات العلنية التي تعقدها تلك الحركات من أجل التحاور والتوحد أو الائتلاف رسخت يقينا جديداً بأن العراق سيبقى للعراقيين وان نظاما كالسابق لن يعود مثله أو حتى قريبا.
|