* عمان الجزيرة «خاص»:
ما كانت أرض وادي الرافدين إلا بلاداً تفيض خيراً ومعرفة ولم يكن ذلك ليقتصر على أول الخيالات والأفكار الكبرى التي منحت البشرية تصوراً بكراً عن فكرة الآلة أو حتى ليقتصر على الكتابة واختراع الأبجدية بل تجاوز ذلك إلى سواه مما تدين له الحضارة البشرية.
من بين ذلك الدفق كانت «السنطور».. هذه الآلة الموسيقية التي تعود إلى أزمنة سحيقة ربما ترتقي عن اكتشاف الكتابة.
مساء أمس استضافت دار الفنون «مؤسسة خالد شومان» أحد ألمع عازفي السنطور المحترفين وأحد أهم خبرائها لجهة التحديث الموسيقي.. انه الفنان باسل الجراح في أمسية موسيقية غنائية منفردة.
لقد جاء الغناء وفيه مسحة من حزن أصلها فرح على جاري عادة أهل العراق، أما الموسيقى فبدت بنية قوية الوضوح وتثير المخيلة.. موسيقى يجري فيها ماء على ما قال أهل نقد الشعر لو صح التوصيف ومعها يسمع المرء ريحاً تمر على جذع نخلة أو تهب على سطح الفرات.. موسيقى من النوع الجاذب الذي لا يدع المرء محايداً في أحاسيسه فهي تضرب على العصب الحساس للألم الخاص الذي يتقاطع فيه العام «العراق وألمه» مع الخاص بما هو استجابة فردية لحاجة جمالية محضة.
ولعل ما يتسبب بذلك ان السنطور تتدفق منها الموسيقى في بنية واضحة ويتدفق صداها في بنية موازية كأنما الأمر ان المرء يتقاطعه العلم والخيال معاً.
آلة السنطور تأخذ شكلاً معيناً من خشب خاص، والأوتار على سطحها مشدودة إلى قطع خشبية ناتئة كما لو انها حجارة شطرنج وهي «مفاتيح» يمكن ان يرتخي الوتر أو ينشد أن اديرت على هذا النحو أو في اتجاه معاكس كي يصل العازف بآلته إلى مزاج ما.
غير ان العزف ليس نقراً أو ضرباً وبملامسة مباشرة من الاصابع للوتر فثمة «مطارق» خاصة يتحكم بها العازف بيديه الاثنتين معاً ثم يطرق على الوتر وفيما يعزف يختار وتراً كي يطرقه لتخرج الموسيقى في بنية.
على هذا النحو يكاد عمل عازف السنطور يكون أكثر شبهاً بعمل النحات وفي يده إزميل وفي الأخرى مطرقة ويختار من الحجر الأصم مناطق بعينها كي يتخلق الشكل في هيئة كائن أو معنى.
باسل الجراح.. نحات الموسيقى الكبير قدم قرابة أربع عشرة مقطوعة صاحب بعضها الغناء وخرج ببعضها عن المقامات العراقية إلى مساحة من الارتجال الجميل ولم يمتع جمهور دارة الفنون الذي ملأ قاعتها الرئيسية وبعضها غربي بل استفز روح «المحبة» القابعة في الجمال.
|