لا توجد دولة في الغرب تبدي اهتماماً واحتراماً لرجال الفكر والثقافة الرفيعة كما تبديه فرنسا وعلى الصعيد الرسمي والشعبي معاً.
ولطالما كانت فرنسا راعية لحرية الفكر والإبداع، واهتمامها بذلك كان يترجم جيداً من خلال بحثها الجاد عن أصحاب المواهب الواعدة ورعايتهم، كما توجد سمة تميز الشارع الفرنسي لا نستطيع إغفالها أيضاً وهي مطالبته دائماً من مثقفيه ومفكريه ومبدعيه المشاركة بفاعلية وإيجاد الحلول لمشاكله ومطالبتهم أيضاً من تلك النخب بالإجابة على كافة الأسئلة التي يطرحها الرأي العام لإزالة الغموض واللبس عن الكثير من الأحداث والظواهر.. ويسخرون بشدة ممن ينأون بأنفسهم بعيداً ولا يتفاعلون ولا يشاركون في ذلك..
فلقد اطلعت مؤخراً على أهم ما تمخضت عنه «معارض حوار الحضارات» التي أقيمت في باريس، وما وجدته يثير الكثير من الشجن كما يثير مزيجاً من الأحاسيس المتناقضة.. في الواقع نحن نعيش في زمن ملأته رهانات الألفية الثالثة كما فقد فيه التوازن في كل شيء.
لقد جاءت تلك المعارض التي نظمتها «مكتبة فرنسوا ميتران الوطنية» بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتحديداً كما أعلن مسؤولو المكتبة الوطنية الفرنسية، رداً على احتدام النقاش في فرنسا وأوروبا بعد أحداث نيويورك وواشنطن، حول فكرة هينتنغتون في صدام الحضارات، فعمدت «المكتبة الوطنية الفرنسية» إلى مناقشة تلك الفكرة بمشاركة مفكرين وكتاب عرب ومسلمين وفرنسيين وأوروبيين ونظمت ثلاثة معارض كبيرة، استمرت لوقت طويل لتتيح الفرصة لأكبر عدد من الزوار مشاهدتها والاطلاع على ما تحتوي من جهد وحقائق تاريخية، فكان المعرض الأول تحت عنوان «إشعاع الكتاب العربي»، والمعرض الثاني تحت عنوان «الإدريسي.. نظرة إلى العالم» والمعرض الثالث بعنوان «سفر إلى الشرق.. صور فوتوغرافية من سنة 1840-1880م» وعمد المسؤولون القائمون على ذلك، إشراك كبار المفكرين والفلاسفة والجغرافيين والمؤرخين العرب والمسلمين، اعترافاً لدور الحضارة العربية الإسلامية في بلورة حركة النهضة الأوروبية، وتأسيسها علمياً وإنسانياً.
و«المعرض الأول» يقترح على الزوار رحلة مبرمجة عبر التاريخ عن تطور فن الكتاب العربي وتوسع الحضارة الإسلامية وانتشارها في العالم.. ويتناول المعرض «الخط العربي والنمنمة والفسيفساء والزخرفة والتنميق.. وغيرها من أمور تتعلق بفن الكتابة العربي أو انشقت منه» ووضع كافة ألوان فن الكتاب العربي وتطوره تحت الأضواء بدءاً بمخطوطات «القرآن الكريم الأولى»، إلى عصر الطباعة في القرن الثامن عشر الميلادي مروراً بالخرائط والتصميمات العربية الموجودة في المؤسسات والمتاحف الفرنسية، أو المستعارة من متاحف ومؤسسات عربية وأوروبية وعرض أعمال لفنانين عرب معاصرين، وجدوا في فن الخط ينابيع ملهمة في التحديث، كما يضم المعرض ستة مخطوطات عربية تغطي حقولاً عدة من المعرفة من مكتبة «فرنسوا الأول» ملك فرنسا عام 1494-1547م التي تروي حوالي 7 آلاف مخطوطة موجودة حالياً في جناح المخطوطات في المكتبة الوطنية الفرنسية.
و«المعرض الثاني» مكرس لإنجازات الإدريسي «أبو عبدالله الشريف» من 1100-1165م، ذلك الرحالة المغربي الذي برع في الجغرافياً والطب والذي عاش في بلاط روجيه الثاني ملك صقلية من 1095م واشتهر بصنع كرة أرضية له من الفضة وازدهرت في عهده العلوم والفنون باحتكاك الثقافتين اليونانية والعربية، في القرن الثاني عشر، ولقد وصل من مخطوطات الإدريسي عشر ما بين القرن السادس عشر ونهاية القرن الثامن عشر الميلادي وطبعت بأصلها العربي كما وجدت ووضعها الإدريسي سنة 1592م في روما، ثم طبعت بعد ذلك باللاتينية سنة 1619م ثم ترجمت إلى الفرنسية في القرن التاسع عشر.
و«المعرض الثالث» بعنوان «سفر في الشرق»، يضم صوراً فوتوغرافية للبلدان العربية من سنة 1840-1880م، بعد حملة نابليون بونابارت في سنة 1798م إلى مصر وهي المرحلة المعروفة بعصر الصور الفوتوغرافية الذهبي، وينقل هذا المعرض إلى الزوار الحياة الإنسانية والاجتماعية وسحر الطبيعة والغنى الحضاري في الكثير من الدول العربية والإسلامية في تلك الفترة.
قدمت تلك المعارض في عاصمة من أشهر ومن أعرق العواصم الأوروبية «باريس» رسالة بليغة للعالم، مدعمة بالوثائق والحقائق التاريخية عن مراحل الحضارة العربية الإسلامية ومساهمتها في الحضارة الأوروبية، لوضعها الأسس التي قامت عليها الحضارة العربية الإسلامية ومساهمتها في الحضارة الأوروبية، لوضعها الأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية، لتكون شاهدة على حوار الحضارات وانفتاحها وتواصلها في الماضي والمستقبل.. ورداً مخرساً على الاتهامات والحملات المغرضة ضد العرب والمسلمين التي تأججت بعد 11 سبتمبر.ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ماذا فعلت الدول العربية والنخب المثقفة بها في المقابل وعلى المستوى العالمي، رداً على تلك الاتهامات والحملات المغرضة ضد العرب والمسلمين.. منذ 11 سبتمبر 2001م إلى اليوم..؟؟
فاكس: 6066701 - 2 /ص.ب: 4584/جدة: 21421
|