|
| |
إذا ظهرت على الإنسان خسارة كبيرة في عقله وفكره وعلمه وثقافته ضُرب له هذا المثل، وأتَبُّ بمعنى أخسر، لان التَّباب هو الخسار والهلاك وهو مثل عربي أورده الميداني وقال إنه مأخوذ من قوله تعالى {تّبَّتً يّدّا أّبٌي لّهّبُ وّتّبَ } [المسد: 1] ، ومعنى ذلك «خسرت»، ولا يضرب هذا المثل إلا في الخسارة المعنوية التي تقع على الناس، وبخاصة أهل العلم والثقافة الذين يخسرون بانحراف علمهم وثقافتهم عن جادة الطريق خسارةً لا تقاس بالمال، وإنما تقاس بالمثل الأوضح في الخسارة الكبيرة الا وهو «أبو لهب»، ولا شك أن كل كافرٍ بربه خاسر، فما ربح من مات على كفره من صناديد قريش وغيرهم، ولكن أبا لهب خص بسورة قرآنية كريمة أوضحت خسارته الكبيرة وهلاكه العظيم، حتى أصبح مثلاً يضرب للخسارة والهلاك إلى يوم القيامة، وإنما كان مثالاً للخسران لأنه خسر وهو في مكان الربح، وهلك وهو في موقع النجاة، فهو عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من أعرف الناس بأمانته وصدقه، وإخلاصه وعقله الراجح، وهو يرى ويسمع كل يومٍ من ابن أخيه ما يرفع الرأس، ويثلج الصدر، ومع ذلك فقد كذبه تكذيباً عنيفاً، وأعلن عليه الحرب، وجاهر بعداوته حتى عرفها الناس، وهذا غاية الخسران - والعياذ بالله- ، الربح امام عينيه، وبضاعة الحق والخير تعرض في بيت الله عز وجل، والذي يعرضها هو ابن اخيه الأمين الصادق، ومع ذلك فإنه يكابر، ويرفض الربح ويرضى بالخسارة الكبيرة التي لا يغني معها مال ولا جاه ولا ولد {مّا أّغًنّى" عّنًهٍ مّالٍهٍ وّّمّا كّسّبّ } [المسد: 2] . لهذا كله كان ابو لهب مثلاً واضحاً للخسارة والهلاك، ولهذا اشتق العرب من آيات القرآن الكريم الخاصة به هذا المثل فقالوا لكل من يشتري الباطل بالحق، والخسارة بالربح، مع أنه يعيش في موقع الحق، ويرى بأم عينيه مكان الربح:« أَتَبُّ من أبي لهب». تخيل - أيها القاريء الكريم - أنك ترى بضاعة رابحة في سوقٍ كبير تعرض على تاجرٍ يملك المال، ويعلم علم اليقين، أن تلك البضاعة رابحة، ولكنه ينصرف عنها، ويتجه الى بضاعة غير صالحة للبيع، معلومة الكساد، ظاهرة الفساد، يدفع فيها أغلى الأثمان ليكون من اهل الخسران، ماذا تقول له؟؟. الا يستحق أن يقال له قولاً صريحاً واضحاً «أَتَبُّ من أبي لهب»؟. ثم تخيل - ايها القاريء الكريم - عالماً او مثقفاً او كاتباً يرى امامه بضاعة الحق والخير، والفكر السليم، والثقافة الصحيحة، والمنهج الفكري المستقيم، يراها رأي العين، ويعيش في موقعها، وبين اهلها، ويملك أن يربح منها ما يريد، ومع ذلك فإنه ينصرف عنها، ويأبى الا أن يشتري بضاعة كاسدة من متاجر الأفكار المنحرفة، والثقافات الضالة، ويدفع لذلك اغلى الأثمان التي لا تقدر بأموال الدنيا كلها، يدفع جهده وتعبه، وذهنه وعقله، ووقته وعمره، وصحته ليجلب تلك البضاعة الفاسدة، يحملها على ظهر وهمه وخيبته، ليكون بها من الخاسرين، وماهي - لو أنه أحسن التأمل والتفكير - الا بضاعة الخسارة والكساد. الا يستحق هذا البائع الخاسر،ان يضرب له المثل نفسه الذي يقول:« أَتَبُّ من أبي لهب»؟؟. ان الذي يعيش في أجواء الإسلام، يستمع الى ما يُتلى من آيات القرآن، ومن احاديث خير البشر عليه الصلاة والسلام، ويسمع كل يوم ما تردده المآذن من صوت الأذان، ثم لا يجد لذلك اثراً كبيراً في عقله وقلبه، وروحه وحسه، بل يتجاوز ذلك إلى بيع ذلك كله بثمن بخس من وهمه ولهوه وشهوته وشبهته، إنما هو خاسر خسارة كبيرة تقربه من معنى هذا المثل الكئيب. |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |