* رام الله - نائل نخلة:
عاد إلى بيته مسرعاً والفرح يملأ قلبه، كان سعيداً بالعلامة التي حصل عليها في مادة الجغرافيا، فقد حصل على 38 من 40 في الامتحان النهائي، فاستقبله والده بالسعادة ذاتها، ورافقه «بدش ساخن»، وطلب منه ألا يخرج من البيت ويستعد للامتحان القادم.
تناول تامر نزار فتحي عرار، 11 عاما، من بلدة قراوة بني زيد شمال رام الله، «لقمة خبز» وخرج إلى باحة منزلهم، سمع إطلاق نار، فتقدم نحو الشارع العام القريب من البيت، حاصرته رصاصات جنود الاحتلال الذين كانوا يطلقون النار بشكل عشوائي، وكما يؤكد شهود العيان لم تكن هناك أية مواجهات. عندما أدرك تامر أنه في مكان خطر، بدأ يبكي ويصرخ، وتسمر في مكانه، رامز الفهد يكبره بسنتين كان يقف يراقب المشهد من على نافذة منزلهم، فنزول مهرولاً من البيت باتجاه تامر لإنقاذه، فأمسك به وانبطحا على الأرض.
يتابع رامز الفهد: «كان تامر خائفا بشكل كبير، كان يبكي وينادي على والده، طلبت منه ألا برفع رأسه إلى الأعلى، لقد كانت شظايا الرصاص تتطاير من حولنا، وفي لحظة ما رفع تامر رأسه بزاوية 45 درجة، فكانت نهايته». أصيب تامر برصاصة حية في منطقة الجبين فنفذت من الخلف، وانتثر جزء من دماغه على الأرض، أصيب رامز في حالة من الذعر الشديد عندما شاهد زميله وابن حارته يصارع الموت، وبدأ يزحف إلى الخلف وهو في حالة انبطاح كامل، طلب نجدة بعض الشبان والأهالي الذين وصلوا إلى المكان، احضروا فرشة وحملوا تامر وابتعدوا عن منطقة الخطر.
ولكن الوقت كان متأخر، لفظ تامر أنفاسه الأخيرة والجميع ينظر إليه، غير قادرين على فعل شيء له، فالإصابة كانت بالغة الخطورة، سددها القناص الحاقد في الرأس تماماً.
بعد عناء ومشقة وصلنا إلى قراوة بني زيد، كانت القرية كلها في حالة استنفار وذهول تام، الحيرة والخوف القلق يرتسم على وجوه الأطفال، والنساء، وكبار السن، فهم انتهوا لتوهم من تقبل العزاء بالشهيدين رسمية عرار وهي أم لسبع بنات تركتهن يتيمات خلفها، ولشهيد آخر من نفس العائلة سقط في اليوم ذاته هو رامز عرار.
بدت والدة تامر في حالة انهيار تام، لم تستطع الوقوف على قدميها حتى اللحظة، ولم تنبس ببنت شفة، فلم تعد قادرة على الكلام أو حتى البكاء، عيونها شاخصة، وتحدق في كل إنسان غريب يدخل غرفتها، وكأنها تنتظر أحداً يوقظها من صعقتها، وكأنها تنتظر أن نخبرها أن ولدها تامر لم يصبه مكروه، وأنه ما يزال على قيد الحياة..
أبو تامر بدا متماسكاً أكثر من زوجته، جلس معنا، حدثنا، وأجاب على أسئلتنا، وبحزن عميق قال مستعيداً قصة الموت التي لاحقت طفله الصغير «رجع من المدرسة وكان فرحان كثيرا، لأنه نجح بتفوق في امتحان الجغرافيا، وبالفعل أنا فرحت له كثيراً، وقلت له يابا أنت هَسَّهْ (الآن) تعبان وعرقان، بدي أحمّمك (يجعله يستحم) وبالفعل حمّمتوا ولبّستوا، وطلبت منه ما يخرج من الدار، وذهبت إلى بيت الاجر، واحنا قاعدين هناك وصلنا خبر انه في واحد أصيب وبعدها عرفت انه تامر..».
ويتابع: «أنا سمعت ثلاث رصاصات فقط، وحدة منهن كانت في رأس تامر، وبعد ما أصابوه انسحبوا من البلد، هم قتلوه بشكل متعمد، ما كان مواجهات ولا شيء، حتى ان المنطقة اللي استشهد تامر كانت ببعد أقل شيء 1000م، شو بدو يأثر الحجر عليهم؟».
وبعد انتظار طويل احضروا جثمان الشهيد الطفل من قرية مجاورة تتوفر فيها ثلاجة لحفظ الموتى، لفوه بعلم فلسطين، وحمله أربعة ملثمين على نعش متواضع، كانت البراءة كلها في وجه الشهيد، مغمضا عينيه بهدوء، وصر على أسنانه وكأنه ما يزال يتألم من الرصاصة التي وضعت حداً لحياته.
أدخلوه على والدته في بيت جده العتيق، جثت الأم على ركبتيها، دبت الحياة في كل مفاصلها، وعبثاً حاولت فتح عينه اليمنى، نادت عليه بكل صوتها، صرخت وبللت دموعها علم فلسطين الذي لف به جسد الشهيد، ولكن هيهات أن يرد عليها.
بكى الجد، والأب، والأم، والشقيق الوحيد، وشقيقاته الثلاث، جميعهم أحاطوا به من كل جانب، كل واحد منهم يقبله من جانب، قبلوا وجنتيه، قبلوا جبينه الذي تركت فيه رصاصة الحاقدين ثغراً لم يستطع أحد أن يسده، قبلوا قدميه، يديه، عيونه، فمه.. قبل أن يوارى جثمانه الغض التراب يهتفون بأشعار الحزن قائلين:
استشهد الماء ولم يزل يقاتل الندى.. استشهد الصوت ولم يزل يقاتل الصدى.. وأنت بين الماء والندى.. وأنت بين الصوت والصدى.. فراشة تطير حتى آخر المدى.
|