كثرة الكتابات المتناولة لجريمة التفجيرات التي حدثت في الرياض، والتعبير عن مشاعر السخط على الجناة الذين ارتكبوها أمر متوقَّع جدا. ومن هذه الكتابات ما يتحلَّى بالرزانة والتعقُّل، ومنها ما تبدو عليه مظاهر الحماسة والاندفاع، على أن منها ما يوضِّح أن أصحابها حاولوا الاستفادة من ظروف الجريمة ومشاعر السخط الفيَّاضة المشروعة على أولئك الجناة المعتدين، فراحوا يزيِّنون للقراء ما كان لديهم من آراء مسبقة تجاه التوجه الإسلامي، بعامة، والتوجه الإسلامي الإصلاحي الذي قام على أساسه حكم وطننا العزيز، ويدَّعون بأنه أكبر سبب من أسباب ما يحدث من أعمال إجرامية ممقوتة، ويزعمون أن هذا التوجه يرفض الاعتراف بالآخر ويلغيه، وقد يعنون بهذا «الآخر» من لا يشاركون المتبنِّين للتوجه المذكور أفكارهم داخل المجتمعات الإسلامية، أو يعنون به غير هذه المجتمعات؛ وبخاصة الغرب.
وهناك من رأى أن ما يوصف بالصحوة الإسلامية إنما حدث نتيجة الهزيمة التي حلَّت بالعرب سنة 1967م، وفي هذا شيء من الحقيقة، لكنه لا يمثلها كاملة، ولعل التاريخ يفيد في إيضاح تلك الحقيقة وللمرء ان يسأل كيف بدأت العلاقة بين الغرب والأمة الإسلامية؟ ومن الطرف الذي رفض الآخر بمحاولته تهميشه أو السيطرة عليه؟
ليس هناك داعٍ للغوص في أعماق التاريخ يشمل الحديث تلك الحملات الغربية الحربية التي سميت الحروب الصليبية، وليقتصر الكلام على ما جرى في العصر الحديث، لقد بدأت قوات الاستعمار الغربي تداهم الأقطار الإسلامية في القرن السادس عشر الميلادي، وما فعله المستعمرون الغربيون الأوائل من برتغاليين وهولنديين وبريطانيين، ثم فرنسيين وإيطاليين، بالأقطار المسلمة، عربية وغير عربية، أمر يعرفه الكثيرون بمن فيهم طلاب التعليم العام، فالذي بدأ العدوان على الآخر، تهميشاً له، ومحاولة لطمس هويته، ونهباً لخيرات بلاده، هو الطرف الغربي، ولا أتصور منصفاً يمكن ان يقول: إن جهاد الأقطار الإسلامية التي استعمرت لتثبت وجودها، وتستعيد هويتها، وتنال حريتها وحقها في خيرات أوطانها، لم يكن عملاً مشروعاً. ولقد كان ثمن تحقيق ما ذكر باهظاً جداً في بعض الأقطار كالجزائر مثلاً.
هل كان العامل الديني الإسلامي غائباً في كفاح الشعوب المسلمة ضد القوى الغربية التي استعمرتها بلدانها؟ لا أتصور محققاً يمكن ان يدّعي هذا الغياب، وكل ذلك الكفاح تم قبل هزيمة سنة 1967. والحركات الإسلامية، فكراً وتنظيماً، منها ما بدأ قبل تلك الهزيمة بعقود. ومن تلك الحركات جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، ثم أصبح لها فروع، أو نظائر، في أقطار أخرى، ولقد كان التنافس ان لم يُقل الصراع محتدما بين التوجه القومي والتوجه الإسلامي في العالم العربي، أيضاً، قبل سنة 1967م.
وكانت علامات الاندفاع نحو التوجه الأخير وادراكه لقصب السبق واضحة تمام الوضوح منذ حدث الانفصال بين مصر وسوريا عام 1961م.
وكانت القوى الغربية الفاعلة وفي طليعتها أمريكا تظهر تعاطفها مع التوجه الإسلامي في تلك الآونة في حين التوجه القومي يجد تعاطفاً من القوى المعارضة للغرب وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي والصين ما أثر هزيمة 1967م على التوجهات في المنطقة؟
شهدت السنوات التي تلت تلك الهزيمة تطورات مختلفة، فلسطينيا وعربيا، ففي المجال الفلسطيني نشطت التنظيمات السياسية بمختلف توجهاتها.
وكانت حركة فتح الأقدر مالياً ذات توجه إسلامي، وإن كان محدوداً، أما الجبهة الشعبية فكانت ذات توجه عربي قومي محدود اليسارية، وأما الجبهة الديمقراطية فكانت ذات توجه يساري، ولقي نشاط تلك التنظيمات تعاطفاً عربياً عاماً، كما لقي شيئاً من التعاطف عالمياً، لكن بعض عملياتها لم تكن منضبطة، بل مرفوضة احياناً، مما أوقعها في مشكلات عدة. وفي المجال العربي ازداد التوجه القومي ضعفاً، وبخاصة بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، وازداد التوجه الإسلامي قوة.
وكان من مظاهر ازدياد قوة التوجه الإسلامي ما سُمي بالصحوة الإسلامية، التي أصبح الشباب، ذكورا وإناثاً، عمادها الأساسي بدرجة كبيرة، وإذا القى المرء نظرة على شباب هذا الوطن بالذات رأى ان اكثريتهم اتجهوا في تمسكهم الديني اتجاها صحيحا بالتزامهم احكام الدين الإسلامي التزاما لا تفريط فيه ولا إفراط، وذلك بتوفيق من الله ثم بتوجيه وارشاد من علماء الدين المخلصين الواعين، أما الأقلية منهم فلم يوفقوا إلى ذلك الاتجاه الوسطي المحمود. فقسم منهم غلا في فهمه للدين، فبالغ في ظهوره بمظهر يبدو عليه التشدد، ونبذ أموراً من متع الحياة التي يرى اباحتها علماء شريعة يوثق في فقههم، وورعهم، لكن هذا القسم، على أي حال، لم يشقَّوا إلا على أنفسهم أو على المقربين اليهم من اسرهم. وقسم من تلك الأقلية الذين لم يوفَّقوا إلى الاتجاه الوسطى المحمود، دفعهم إلى التطرف عدم فهمهم لأحكام الشريعة فهماً صحيحاً، وذلك بعدم اعتمادهم على علماء دين يتوافر لديهم الفهم العميق لهذه الأحكام. وزاد الطين بلَّة ان تطرفهم امتد إلى نظرتهم إلى مجريات الأمور السياسية.
ما الذي ساعد على هذا التطرف المبني على عدم فهم صحيح لأحكام الشريعة؟ قول من يقول: إن سببه مناهج التعليم سأبيِّن إن شاء الله انه لا يستند إلى أساس علمي، لكن هل كان لمجريات الأمور السياسية خارج الوطن أثر في ايجاد هذا التطرف أو في ترسيخه؟
من المعلوم ان توقيع مصر اتفاقية سلام مع الدولة الصهيونية عام 1979م، كان صدمة لكثير من فئات الرأي العام العربي لأنه أخرج اهم دولة عربية من ميدان المواجهة مع تلك الدولة المغتصبة لفلسطين بما فيها القدس العزيزة لدى كل عربي ومسلم، هل لذلك الحدث تأثير في نفوس شباب شديد الحماسة لدينه بغض النظر عن فهمه أو عدم فهمه لمجريات الأمور السياسية؟ ربما، لكن ذلك الحدث تزامن مع حدث اهم بالنسبة للتحرك السياسي ذي الصلة بالتوجه الإسلامي، وهو نجاح الثورة الإسلامية في إيران، فلقد كان لذلك النجاح وهجه لدى فئات كبيرة من المسلمين، عرباً وغير عرب، شيعة وسنة، ومع ان الفئة المتحمسة من شباب الوطن لا تلتقي مذهبياً مع الذين قاموا بتلك الثورة فإن من المرجح انها أوحت لهم ان التحرك سياسيا وعسكريا، قد يؤدي إلى الوصول إلى الحكم لتطبيق ما يرون انه الصحيح من أحكام الدين، فإن كان هذا الترجيح صحيحاً فقد يكون من العوامل التي أدت إلى حركة من قاموا به في الحرم الشريف.
ولم تكن مجريات الأمور السياسية خارج الوطن بعيدة عن التأثير على توجهات الشباب، فكراً وممارسة، فمن ناحية كانت هناك أفكار سياسية لمفكرين مسلمين فعالين في نظرتهم إلى أمور المجتمع، قادة واتباعاً، وإذا كانت أي قيادة سياسية لا تخلو تصرَّفاتها من سلبيات فإن الاقتناع بالفكر المغالي سيضخَّم تلك السلبيات ويزيد من الاندفاع ضد من يمارسها. ومن ناحية ثانية كانت الحكومات ذات التوجه الإسلامي وفي طليعتها حكومة هذا الوطن ذات علاقة وطيدة مع الدول الغربية، وبخاصة أمريكا، وكانت تتخذ من الشيوعية موقفاً رافضاً كل الرفض.
وهنا التقى توجهها مع أهداف أمريكا التي رأت في تورط الاتحاد السوفيتي بأفغانستان فرصتها للانتقام من جزاء ما فعله من دعم للفيتناميين عند تطورُّها هي في بلادهم. وكان المقاتلون الأفغان قد تسموا بالمجاهدين، ولهذا ما له من جاذبية لدى فئات من المسلمين، وبخاصة في وطننا العزيز. واجتمع هذا مع اندفاع قيادة هذا الوطن في تأييدها لكفاحهم، وحث علماء الدين المرموقين انسجاماً مع موقف هذه القيادة المواطنين على الوقوف معهم بكل الوسائل. فالتحق بهم من التحق من الشباب معتقدين انهم يؤدون واجباً دينيا، ولأن ما كان يقوم به أولئك المقاتلون الأفغان يخدم مصالح أمريكا بالذات رمت القيادة الأمريكية بثقلها معهم، وحل بالاتحاد السوفيتي في افغانستان ما حل من هزيمة كانت من أكبر اسباب ضعفه ثم تفككه وانهياره.
وكان الغرب ورأسه أمريكا قد ساءه استرداد الدول العربية المنتجة للبترول بعض حقوقها بزيادة أسعار تلك الثروة، وظهرت كتابات تهدد بأنه سيعيد ما سلبه منه «بدو العرب» بالطريقة التي يختارها.
ثم وضعت خطة الداهية كيسنجر الهادفة إلى إعادة تقسيم المنطقة العربية على أساس عرقي وطائفي، وشرع في تكوين قوات التدخل السريع وتدريبها، وتوالت الأحداث وفق ما هو معلوم لدى الكثيرين.
على ان الأهم هو ان انهيار الاتحاد السوفيتي أدى إلى تغييرات عدة، من أهمها ان لم يكن أهمها انتهاء حاجة أمريكا إلى الحركات الإسلامية كي تستعملها أداة من أدوات تحطيم ذلك الاتحاد. ومرة أخرى ظهرت كتابات غربية بعضها لشخصيات ذات وزن كبير توضح ان الإسلام أصبح العدو للغرب؟ وبخاصة بعد ان بلغ التوجه الإسلامي العام ما بلغه من مد وانتشار. وبدأت المواجهة بين الطرفين متخذة أشكالاً متعددة، وفي جو كهذا تمكن المتطرفون فكرياً من بث آرائهم الخاطئة في عقول الشباب الذين لم يكن لهم معرفة كافية بأحكام الشريعة حتى اقتنع هؤلاء بفكر خطل كان من نتائجه اعمال إرهابية يرفضها العقل والدين.
|