لئن كانت فكرة استكثار الاصدقاد قديما دلالة على الرغبة، في اشاعة المحبة وتقوية أواصر الاخاء والمودة، وجعل الحياة ميسرة تتعاون على تسهيلها، وتقريبها جهود متآلفة متكاتفة، في مسعاها كثير من المعاني الانسانية الرائعة.. فإنها اليوم للأسف الشديد - الا ما ندر - سبب مباشر في خلق اجواء من الشقاء الانساني ومصدر ثر للشر يورث ناره حقد لئيم، وعداء زنيم، وحسد غير كريم.
كان الصديق - في غابر الزمان - اليد التي تبطش بها والقوة التي تعينك على اجتياز المصاعب، والسلاح الذي تحقق به آرابك، وتفسر به احلامك، وتقرب بواسطته بعيدك!!
كان الصديق - في ذلك الزمان الغابر - عينك التي تبصر بها جمال الحياة ودليلك الى الخير، ومرشدك الى الفضيلة، يوم كان الناس يدينون بالمعاني الكريمة.. ويؤمنون بالمثل العليا!!
أما اليوم - ومن ذا الذي ينكر هذا - فقد طغت المادية بكل اشكالها وصورها على المعاني الفذة الرائعة في حياة الشعوب على اختلاف ألوانهم، وتباين مشاربهم وتفاوت مستويات ثقافتهم!!
فصديق زماننا هذا صديق رخاء وبلهنية، وبحبوحة عيش، يلقاك في مسوح الرهبان، ويعايشك بأرواح الملائكة طالما ان لك جاها.. وعندك مالا.. وحولك مرعى خصبا، وهو إن لم تكن على هذا الحال، عدو مبين لا يمنعه عن ايذائك حياء، ولا ترده عن ايصال الشر اليك عارفة ولا يثبته على العهد يقين!!
فإذا اطلت تجربة أبي الطيب المتنبي من وراء الغيب، وبعد مئات السنين لتهتف في نداء مخلص بكل ذي عقل:
عدوك من صديقك مستفاد
فلا تستكثرن من الصحاب
|
فإنما توقظ في اعماقنا الرغبة في معرفة شيء جديد عن الاصدقاء في ذلك التاريخ، حين كان للصداقة شأن.. ومعنى.. وقيمة..
وإذا دعا شاعر آخر، في اشفاق على هذا اللون الكريم من أخلاق البشر:
تمسك إن ظفرت بذيل حرٍ
فإن الحرَّ في الدنيا قليل
|
فالذي لا مراء فيه.. ولا شك ان الصداقة في عصرنا الحديث.. عصر النور، والعلم مصدر من مصادر الشقاء الانساني في حياة الشعوب أفرادا وجماعات - ومنطلق واسع لعناصر الشر بين كل الناس.. والعاقل الحكيم - في أيامنا هذه - من يعمل على ألا يكون لما يسمى بالصداقة، تأثير في حياته، وان يصم اذنيه عن جرسها اللطيف ورنينها الحلو، وأنغامها الجميلة.. وان يغمض عينيه عن بريقها الزائف، وألقها الخادع، وألا يعول - فيما يأتي من حياته أو يدع - الا على نفسه.
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعوِّل في الدنيا على رجل
|
|