أدرك جيداً أن الحديث عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شائك، ووعرة مسالكه، لذلك يجب أن يتسلح من يتناوله بالحذر الذي لا يؤثر سلباً في رؤيته الموضوعية، فقد أفرطت الضربات العشوائية سلسلة نقدها البناء، وأصابت وأخطأت، وأحدثت خطابات التعميم والمطالبة بالحلول الجذرية انطباع عدم الثقة ومشاعر العدوانية والخوف من الطرف الآخر، مما أحدث ردة فعل عنيفة وغير ايجابية.. وهناك بون شاسع بين الدعوة للقطيعة وبين الحث على الإصلاح التدريجي والمتزن، ونقد الذات لا يجب أن يكون اقصائياً أو عدوانياً، فالأحوال لا تتطور من خلال فلسفة الصدام وحركة الهدم..
وأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بدعة، إنما فضيلة وفلسفة اصلاحية في غاية السمو، وتأتي ضمن فصول منهج الحسبة في الإسلام، التي من مجالاتها وجوهرها، حماية محارم الله تعالى أن تنتهك، وصيانة أعراض الناس، والمحافظة على المرافق العامة والأمن للمجتمع، اضافة إلى الإشراف العام على الأسواق وأصحاب الحرف والصناعات والزامهم بضوابط الشرع في أعمالهم، ومتابعة مدى التزامهم بمقاييس الجودة في انتاجهم، وكل ذلك يتم بالتنسيق مع الجهات ذات الاختصاص من وزارات ومؤسسات وغيرها، وشعب الإيمان تتعدى حدود الفهم المحلي الضيق للأمر بالمعروف، فإماطة الأذى عن الطريق أحد شعب الإيمان، والحفاظ على نظافة البيئة أحد وجوهه..، وإذا أدركنا عمق وفضيلة المعروف في الدين، فمعناه أنه يتجاوز الفهم الضيق إلى مجالات أكثر رحابة وأعم فائدة، مثل الحفاظ على الثروة المائية والنهي عن تجاوز السرعة المحددة، ومعالجة ظواهر الاستبداد والفقر والتسول والفساد وظاهرة التطوع لفعل الخير ومقاومة الأشرار والفساد قديمة في الثقافة العربية، فانتشار ظاهرة ما يطلق عليه بالعيارين في بغداد القرن الثالث الهجري، أدت إلى خروج أفراد متطوعين لحماية المجتمع من تعديهم وفوضويتهم، والعيارون كانت لهم تسميات عديدة، كالمشردين والغوغاء والأسافل والسفهاء واللصوص، وظهروا ابان الفتنة بين الأمين والمأمون وحصار بغداد، وكانت أحد الحركات التي ظهرت كردة فعل للحرمان والتشرد والاحتقار الاجتماعي والعطالة، وهي تختلف في تركيبتها الاجتماعية عن «الشطار».. وهو من احترف السرقة لتأمين ما يسد حاجتهم، وكان بروز ظاهرة الجماعات المتطوعة ردة فعل لحالة الفوضى، ولسد فراغ السلطة أيام الفتنة، لكنهم كانوا يؤدون أعمالهم من دون مقابل مادي..
وهناك تكمن حالة الالتباس في وضعها الحالي، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تخطى فضيلة العمل التطوعي والدعوة بالإحسان إلى عمل مؤسسي، يكلف به أفراد، يحرصون على استمرار العائد المادي الذي يحصلون عليه مقابل عملهم اليومي، وهو ما يعني ان القضية متشبعة، وتدخل فيها عوامل اقتصادية وضمان دخل أفراد ومصدر للحياة، مما يجعل الحوار حول انهاء وظائفها في غاية الصعوبة في ظل أزمة العمل في المجتمع، ولعل المطالبة بتطوير أدائها واحداث مهام مدنية لاعضائها، جدير بالمراجعة والدراسة.
ولم يكن على الاطلاق محور قضية الصراع بين الهيئة والمجتمع، عدم الاحترام والتقدير لهذا الأصل العظيم، أو محاولة المساس بنزاهة أعضائها، وإدارتها، فالجميع يتفق أنهم مجتهدون، ويؤدون ما يطلب منهم بمنتهى الأمانة والاخلاص، ولكن هذا لا يعني أنهم خارج النقد أو يتمتعون بحصانة ضد المطالبة بإعادة الهيكلة، فنظامها افتقد لعنصر التطوير خلال العقود الماضية، واستمر يعامل أفراد المجتمع كمتهمين حتى تثبت براءتهم، مع أن الجميع يدرك أن نوايا ومقاصد ادارة الهيئة وأعضائها في غاية النبل، وتهدف إلى فعل الخير والأفضل لحماية المجتمع من المنحرفين، ولكن ليس دائماً لكل مجتهد نصيب.
.. ولأسباب ربما لها علاقة بالثقافة الاجتماعية، التي تنظر للمرأة كمتهمة حتى تثبت ادانتها، ارتبط النهي عن المنكر في مجتمعنا العربي بشكل رئيسي بالمرأة وشؤونها، فهي تعد الهدف الأبرز في قائمة النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، في حين أن مبادئ هذه الفضيلة أكثر شمولاً، وكان من المفترض أن تتطور مفاهيمها إلى آليات محاسبة ومساءلة في جميع الخدمات والادارات والهيئات، تتجاوز نمطية التطور وقضية المرأة وغطائها أو عباءتها، ويتعدى حصر وظائفها في مؤسسة، تختصر مفاهيم الفساد وفلسفته ودوافعه في حركة المرأة واغلاق المحلات التجارية، ومطاردة المراهقين، واجبار المارة على دخول المسجد، ومعاملة الناس أحياناً بأسلوب فظ.
والأمر بكل تأكيد.. يحتاج لوقفة ومراجعة، فالمجتمع تطور خلال العقود الماضية، وأصبح في وضع متقدم، يهيئه للحديث عن مبدأ الحقوق، والدعوة إلى احترام الخصوصية والمطالبة بلائحة للتنظيمات والتعليمات التي تحدد ما يجب اتباعه في حالة الخروج من البيت إلى السوق أو الجامعة أو العمل، فالكثير من المواطنين والوافدين لايتلقون أي ارشادات تحدد الخطوط التي لا يصح تجاوزها في المجتمع، ولا يعلمون بشكل دقيق ما هو ممنوع، وما هو مسموح، وما هو الزي المناسب أو العمر المحدد الذي يسمح له بالذهاب للسوق بحرية وطمأنينة، وما هي نوعية المخالفات والعقوبات التي سينالها إذا ارتكب أحدهم مخالفة.
والاشكالية تنحصر في أن اجتهادات أعضاء الهيئة كانت دائماً تحدد اطرها اجتهادات واتفاقات «شخصية» لا تنشر تعاليمها في الصحف أو في وسائل الاعلام، ولم تدخل بعد ضمن جدول اعمال لجان وتشريعات مجلس الشورى، فالمرء في أحيان كثيرة قد يفاجأ بالتشديد في تطبيق تعاليم جديدة، لم يعلم عنها ولم تعلن من قبل، لذا هو يعيش في حالة خوف وذعر من أن تطوله تهمة أو مخالفة جديدة، أو جنحة يرتكبها، من دون علم مسبق بقرار حظرها، والأسوأ من ذلك كله، أنه لا يملك حق الدفاع القانوني عن نفسه في حالة القبض عليه بتهمة ما، وليس له الحق في التزام الصمت، وألا يتحدث اكراهاً أو يعترف تحت الضغط بما لم يفعله، ولا يملك حق تكليف محامٍ للدفاع عنه، وحق التعويض اذا تضرر من جراء اتهامه جزافاً..
والمجتمع السعودي لم يعد فوضوياً، والناس على وجه العموم يلتزمون بالآداب والتعليمات، شريطة أن تكون واضحة للجميع، وأن تعلن الاجراءات الجديدة وكيفية تطبيقاتها، ويعلم بها الوافد والمواطن حين صدورها، وأن يكون هناك زي موحد ومدني لاعضاء الهيئة، وأن يعرف ضابط الأمن الديني ان صح التعبير بنفسه، ويقدم وثيقة تثبت تكليفه وشخصيته لمن يريد أن يشهر له مخالفة، وأن يخبره بتهمته وبحقوقه في حالة القبض عليه، وأن تتاح الفرصة كاملة للمتهم في أن يدافع عن نفسه، أو يكلف من يدافع عن قضيته، وأيضاً أن يكون له كامل الحق في المطالبة بالتعويض إذا تضرر من أي اجراء تعسفي أو معاملة غير لائقة.. وفي غياب هذه الاجراءات والتنظيمات والتعليمات والحقوق، سيظل هذا العمل السامي وسيلة لمن يبحث عن سلطة وقوة مطلقة، وقوة السلطة تهيِّئ الأجواء الملائمة إلى سوء استعمالها وتوظيفها في غير محلها، ويؤدي اطلاق سلطتها بلا ذراع مقاومة إلى مفسدة، وقد يحدث مثل هذا الاستغلال في أي مؤسسة تعمل بلا رقيب، ومهما تكاملت نزاهة وعدالة اعضائها..، .. لذا تستدعي حاجة مواكبة قافلة التطور، أن يعاد تنظيمها وفق معطيات العصر الجديد، ومن خلال مقاصد الدين الحنيف..
|