أمر غريب على مجتمعنا المتماسك، وحادث لم نعرف له سابقة، إن صحّ ما قيل بأنَّهم منسوبون لهذه البلاد، وأنّهم تربّوا في تربتها، وتغذّوا من خيراتها.
لقد مرّ ببلادنا حالات مماثلة، في أزمنة متفاوتة، وبأعمال متباينة، لكنها لم تكن بأيدٍ سعودية، ولم تكن مدارة بفكرة نابعة من هذه البلاد، وإنّما حرّكتها قلوب حاقدة، ودفعت إليها مؤامرات مبيّتة للمساس بكيان هذه الدّولة المترابطة مع شعبها، لتفريق القلوب، وبثّ الفوضى في مجتمع منّ اللّه عليه بقيادة وحّدت شمله، وقمّة منصهرة مع القاعدة: عقيدة وتفاهماً، لأنّها بلاد نبعث منها الرسالة المحمّديّة، التي انتشرت في الآفاق بقيادة رجال من هذه الصّحراء، ومنّ اللّه على أهلها، بأنْ كان الحرمان الشريفان، في ربوعها، والمقدّسات الإسلامية، التي ترنو إليها الأفئدة، بين وهادها وسهولها..
ولئن عاشت فترة من الزّمن في فقر وجهل فقد هيّأ اللّه لها قائداً جمع اللّه به الشّمل، وقيادة وحّدت النّزعات، فرفع راية التّوحيد الملك عبدالعزيز رحمه اللّه ورفرف العلم الأخضر تزيِّنه كلمة الإخلاص، لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه، ففرح كلّ مواطن بهذه الجزيرة بهذا النّداء الذي استجابت معه المشاعر، فانضووا طائعين مستبشرين، حتى أتمّ اللّه للبلاد وحدتها، واستسلم أهل الأهواء للقيادة الحكيمة، فصارت دولة ذات كيان، حيث أمن الحجاج والعمّار، وجاء مع الصدق والإخلاص الغنى ورغد العيش، لأنّ الإيرادات وجّهت لصالح البلاد والعباد: عمراناً وتعليماً، ومرافق عديدة لا تحصى غيّرت الحالة: للفرد والجماعة، وللأرض والبلاد بالمشروعات.. مع التّركيز على القاعدة الدّينيّة، لأنّها الأساس في دعائم الملك، الذي أولاه عبدالعزيز ورجاله جلّ اهتمامهم.. وبذلوا في سبيل ذلك راحتهم.
فالأحداث لم تزد أبناء هذه البلاد، إلاّّ التفافاً مع قيادتهم، ولم يزد القيادة إلاّ تصميماً وعزماً على التّصدّي لكلّ عمل والمجازاة لكل عابث.. فإن كان فرداً فحكم اللّه ينتظره، ولا محاباة في تطبيق شرع اللّه، وإن كان متستراً روقبت حركاته، ورصدت بخيوطها..
ونصيحتي لكلّ أب أن يرعى أمانة اللّه، في ولده، وأن تهتمّ كلّ أمّ بفلذة كبدها، حتى ينشأ في حسن تربية البيت، الّذي يأخذ منه أصول التّوجيه والتّعليم، مثلما أخذ منه أسس التّغذية، من دفقات ثدي أمّه، ثم من عرق جبين أبيه كسباً حلالاً.. ومعية هنيّة.. لأنّ الوالدين يرعيان نموّ جسم ابنهما غذاء ودواء، فيجب أن يصاحب هذا رعايته فكراً وحسن تربية وتعليم، وأن يكون هذا التّأسيس، على قاعدة الإسلام الرّاسخة: ديناً يعتقده وعبادة يطبّقها، وخلقاً يمتثله.
إنّ دور الآباء كبير، وأثرهما إذا اهتمّا بالمراقبة والمتابعة يبرز: سلوكاً وقرناء صالحين، وبعداً عن مداخل السّوء التي ينعكس دورها على البيت والمجتمع، وأثر التّفاهم والانضباط الشّرعي على الأبناء مما يسرّ الآباء، وينفع الأمّة صلاحهم واستقامتهم، فهي أمانة يجب أن يحرص عليها كلّ أب وكلّ أمّ.. كما قال الشافعي:
نعم الإله على العباد كثيرة
وأجلهّن نجابة الأولاد
|
ولئِن كان قد تساءل بعض القرّاء مع ما كتبه: منصور بن إبراهيم الحسين، في صحيفة «الجزيرة» يوم 18/3/1424هـ ص14، من افتراضات فيمن عمل التّفجيرات في الرّياض، ذلك العمل المشين الذي أنكره كلّ من عرفه، فإن جوانب في هذا الأمر قد تكشفها الأيّام، ذلك أنّ من فضل اللّه علينا أنّ كلّ حدث ينكشف غطاؤه، ويظهر للمسؤولين جوانب تجعلهم يدركون العدوّ من الصّديق.
وهذه الطّغمة التي أسلمت قيادتها لمخطّطين، يريدون المساس بثوابت المملكة، وليحدثوا في نظرهم بلبلة يتفكّك معها التّلاحم، فإنهم قد أبعدوا النّجعة، وخابت ظنونهم، فما إزدادت الأمّة إلاّ تماسكاً، وما إزداد المواطن إلاّ ولاء مع قيادته، واستنكاراً وبغضاً لهذا العمل السّيّئ ومقتاً لمن قام به حيث يرون كما برز في كلّ ناحية من الوطن المتباعد أنّ من قام به، ما هم إلاّ إن كانوا صحيحاً هم من أبناء الوطن شباب مغرّر بهم، وأفئدتهم قد ران عليها ما جعلها تقلب الحقائق.. فإن كانوا مسلمين فالمسلم لا يرضيه مثل هذا العمل، بل دينه يردعه عن السّير فيه والإضرار بالمسلمين: قتلاً وترويعاً أو تخريباً.. ومبدأ الإسلام: «لا ضرر ولا ضرار» وصيانة الحرمات والمحافظة على الضرورات الخمس: النّفس والمال، والعرض والدّين والعقل.
وهذا يعني المسلم أيّاً كان سواء من هذه البلاد أو غيرها.. لأنّ المسلم أخ للمسلم فلا يظلمه ولا يتعدّى عليه، ولا يحقره.
أمّا إن كانوا من مواطني هذه البلاد، ممّن غرّر بهم، نتيجة الجّهل وسوء التّوجيه، فهل يرضى كلّ فرد منهم أن يطعن أهله بخنجره، أو يمسّ بني جلدته، وأقرباءه بسوء، أو أن يفتح ثغرة للأعداء على قومه ومحارمه، لينفذوا منها، في إعانة للكافر على المسلم؟ فهذا من أسوأ العواقب، وأعظم الموبقات.
والّذي نخشاه، أن يكون وراء هذا العمل عداوة مبيّتة ضدّ الإسلام وأهله، وضدّ هذه البلاد التي هي قاعدة الإسلام الرّاسخة، فجاءت هذه المافيا الجديدة لتطعن الإسلام بأبناء الإسلام، ولكنّ عملهم سيرجع إليهم، لأنّ اللّه حافظ لدينه وقيادة هذه البلاد بحمد اللّه يقظة، ولا يحيق المكر السّيئ إلاّ بأهله.. وعلى كلّ فرد منّا أن يكون معنيّاً وعينه مفتوحة على مكامن الخطر، وعلى كلّ أب وأمّ، وكل معلّم وطالب، أن يكون له أثر في تربية الشّباب وحسن توجيههم، وتحذيرهم من مسارب الشّر.. الذي يُعْرَف بأهله، والابتعاد عن كلّ ما حرّم اللّه ورسوله لما فيه من ضرّر ظاهر، وعواقب وخيمة..
فالإسلام تدعو تعاليمه إلى أمور يجب تأصيلها في الشّباب: تربية وعملاً: برّاً وإحساناً، وصلة رحم وتعاطفاً، وتأدّباً مع الكبير، وسؤالاً للعالم الموثوق، وحباً للخير وبعداً عن الشر، وحرصاً على القرين الصالح، وبعداً عن قرناء السوء وما يجرّ إليهم من شهوات وأعمال.
فطرة اللّه
جاء في كتاب نجباء الأبناء: أن المهاجرين والأنصار، اجتمعوا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال أبوبكر رضي اللّه عنه، واللّه يا رسول اللّه ما سجدت لصنم قط، فغضب عمر بن الخطّاب، وقال: تقول: واللّه يا رسول اللّه ما سجدت لصنم قطّ، وقد كنت في الجاهليّة كذا وكذا سنة، فقال أبوبكر: ذلك أنّي لما ناهزت الحلم، أخذني أبي أبوقحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشمّ العوالي، فاسجد لها، وخلاّني وذهب.
فدنوت من الصّنم، وقلت له: إنّي جائعٌ فأطعمني، فلم يجبني، فقلت: إنّي عطشان فاسقني، فلم يجبني، فقلت له: إنّي عارٍ فاكسني، فلم يجبني، فأخذت صخرة وقلت: إنّي مُلْقٍ هذه الصّخرة عليك، فإن كنت إلهاً فامنع نفسك، فلم يجبني، فألقيت عليه الصّخرة، فخرّ لوجهه، فأقبل والدي، وقال: ما هذا يا بنيّ؟، فقلت: هو الذي رمى نفسه.. كما ترى.
فانطلق بي إلى أمّي فأخبرها، فقالت: دعه فهذا الذي ناجاني به اللّه..
فقلت: يا أمّاه، ما الذي ناجاك به اللّه؟ فقالت: ليلة جاءني المخاض، لم يكن عندي أحد، فسمعت هاتفاً يهتف، فأسمع الصّوت، ولا أرى الشّخص، وهو يقول: يا أمة اللّه، أبشري بالولد العتيق، اسمه في السّماء صدّيق.
|