ما أكثر مواقف سلطان بن عبدالعزيز التي تحملها ذاكرة عصره وستبقيها لأجيال من بعده.
أهم ما يميزه أن إنسانيته تمتزج دائماً بمسؤولياته، إذ إنك لا تستطيع أن ترى سلطان المسؤول منفصلا عن سلطان الإنسان، الاعتبارات الإنسانية في قرارات سلطان بن عبدالعزيز توضع دائماً في المقدمة. ابتسامته ودمعته وحكمته وحزمه وغضبه ورضاه كلها تجتمع فيه في آن واحد لا في أوقات متفرقة. تستطيع أن تقول عنه ببساطة أنه عزائم عدة رجال اجتمعت في رجل واحد.
الابتسامة التي لا تفارقه لا تنفصل قط عن الحزم الذي يلازمه. ابتسامته في الحزن مواساة وفي الفرح سعادة، وحزمه في كل وقت انضباط واحترام للواجب والتزام وطني وإنساني، وهذه بعض من مواقفه.
جلالة الملك فيصل يسجل كلمة في سجل الشرف بمدينة الملك عبد العزيز العسكرية وسلطان يقف إلى جواره شامخاً
دموع سلطان وأبوته
الأمير سلطان رجل يمثل الإنسانية بكل معانيها، فهو الأبوة الحانية لكل فرد في المجتمع، منحه الله قلبا كبيراً وعواطف عميقة من الحب والعطف والاريحية التي قلما نجدها مجتمعة الا في القلائل من الرجال. فأصبح عين المجتمع وأذنه ويده التي تتلمس مواقع الاحتياج أينما يكون ومواطن الخير أينما تقع لتمتد يده مواسية وداعمة لكل طفل تغيب عن وجهه ابتسامة، ولكل أب تكالبت عليه ظروف الحياة، ولكل أم فقدت معيلها فباتت في حاجة وأيتامها.
وها هو في الحالات الانسانية يوجه بعلاج من يحتاجون العلاج، ويتكفل بذلك داخليا وخارجيا فطائرات الاخلاء الطبي تنتقل من مكان إلى مكان تسابق الريح، من أجل انقاذ طفل أو علاج رب أسرة أو اسعاف سيدة. ويظل سموه يتابع الحالات الاسعافية لهؤلاء وغيرهم، ويقدم المساعدات التي يحتاجونها بكل إنسانية وسخاء.
وقد تجلت إنسانية سموه مع أبنائه المواطنين في مواقف كثيرة منها على سبيل المثال موقف سموه عند حادث تحطم الطائرة (الكوغر) يوم الأحد 23 شعبان 1421هـ الموافق 19 نوفمبر 2000م التي تحطمت في مطار القصيم الاقليمي أثناء مشاركتها في عملية انقاذ والتي راح ضحيتها سبعة من أبناء هذا الوطن، ثلاثة ضباط وأربعة أفراد.
يقول سموه عن هذا الحادث: «المروحية التي سقطت في القصيم كانت تقوم بواجب وطني لانقاذ شاب سعودي احتجز لـ12 ساعة بسبب السيول التي عمت المنطقة، وكنت قد طلبت منهم أن يؤجلوا السفر للصباح، لكنهم رفضواو نظراً لأن الطائرة مجهزة بجميع المعدات اللازمة للكشف في الأرض والتحري والبحث، وحاولوا النزول قرب المجمعة، لكنهم تعثروا بسبب الامطار والسحب الشديدة والغمام، وتوجهوا لمطار القصيم وكان الأقرب، وكانوا يسيرون على أحسن طريقة، وعندما اقتربوا من القصيم أصيبت الطائرة بخلل في الجهاز الكشفي وطلب الطيار من زميله ان يسير معه، وعندما رأى المدرج نزلت بنحو 50 متراً عن المدرج، فاحتكت بالأرض واحترقت، وكانوا رحمة الله عليهم، سبعة أشخاص وهم شهداء الواجب».
(الاقتصادية 24/8/1421هـ).
وقد استقبل سموه ذوي وأقارب الشهداء بمكتبه بعد الحادث بأسبوع، لينقل لهم تعازي خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده وتعازيه شخصيا. فقال في بداية اللقاء: أنتم آباؤنا واخواننا وأولادنا، وأنا حبيت أشوفكم، وكانت أمنيتي كبيرة أن أؤدي الصلاة عليهم، صلاة العصر، بالمطار لكن تأخرت الطيارة لأسباب صحية لتنظيم الاخوة الجثمان، وكان عندنا وزير ضيف مرتبط بمقابلة خادم الحرمين الشريفين في اللقاء ولم أتمكن من ذلك ووكلت رئيس هيئة الأركان العامة والاخوان لاداء الصلاة عليهم. وأضاف سموه: وقد وافق خادم الحرمين الشريفين على اعطائهم راتبهم الكامل والمساعدات من الملك بموجب نظام الدولة واعطائهم آخر مربوط من المرتبة الأعلى وهذه، ولله الحمد، دفعة جيدة لذويهم على عوائلهم، ونحن من ورائهم ومن دونهم على كل حال.
وعن مشاعر سموه لحظة وقوع الحادث قال: منذ الساعة السابعة صباحا وأنا معهم بالهاتف ومع الاخوان الاحياء منهم ومن رئيس هيئة الاركان العامة وقائد القوات الجوية وان دمعتي على خدي كأن الميت أحد أبنائي لأنهم أبنائي المفضلين وأنا مكلف لخدمتهم من خادم الحرمين الشريفين ومن سمو ولي العهد وحكومتهم الرشيدة.
(الجزيرة 30/8/1421هـ)
وزف سموه بشرى لذوي المتوفين ان أبناءهم واخوانهم الصغار إذا كبروا يدخلون في الكليات ويعيشون مثل ما عاش آباؤهم وأكثر.
وقد كان لذلك أبلغ الاثر في نفوس أسر وأقارب الشهداء، حيث كانت مشاعر سموه وكلماته البلسم الشافي على جروحهم، والعزاء الاكبر في مصابهم الجلل وأن أبناء الوطن كلهم أبناء لهذا الانسان الذي طلب منهم تأجيل السفر، في البداية، إلى الصباح خوفا عليهم ورفقا بهم، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا، فحدث ما حدث، ولم يخف سموه ألمه ودموعه على فقدهم لأنهم أبناؤه، وحرصه على أسرهم وذويهم بتفقد أحوالهم ومساعدتهم وتأمين مستقبلهم الوظيفي بإذن الله فيما بعد.
التخطيط وحضور البديهة
يتبع الأمير سلطان أسلوبا حكيما في التخطيط ودراسة الخطوات المقبلة، وهو أسلوب المشاورة والمشاركة في الرأي، وعمل الدراسات قبل اتخاط القرارات، وهذا أسلوب إسلامي وعملي وعلمي.
يقول الأمير خالد بن سلطان عن حكمة والده: كان الصراع القبلي متأصلا في اليمن، لكن الأمير سلطان بذكائه وحكمته، أدى دوراً بارعا في التأليف بين زعماء القبائل، وظلت الشخصيات اليمنية المهيبة، بعمائمها وخناجرها المعقوفة تتدلى من أحزمتها، تسعى إليه في جدة والرياض. لم أكن أسمع ما يدور بينهم من مباحثات، لكنني وأنا أراقب الموقف عن كثب، تعلمت من صبر والدي وحكمته الشيء الكثير.
عُرف الأمير سلطان متحدثا بارعا وخطيبا مفوها، سلس العبارة، عميق المعنى (يرتجل) أحاديثه مستنداً إلى مخزون ثقافي، وحكمة بالغة وفصاحة مبهرة، ولكلمات سموه التي يوجهها لمنسوبي القوات المسلحة أبلغ الاثر في نفوسهم ورفع معنوياتهم، وما ذلك إلا لما آتاه الله من الفصاحة والبلاغة وطلاقة اللسان، التي تتكئ على رصيد معرفي وثقافي كبير، وتجربة طويلة، وخبرة فينقاد له المعنى وتترقرق من لسانه الألفاظ، متحدث لبق يأسر لب من يخاطبه، ومحاور بارع, بأسلوب راق في الحديث والاقناع.
قال عنه سعود بن هذلول: «... خطب: إذا نطق أصاب، وذو مقول لا يعاب..»
ولا أدل على سرعة بديهته وحضور فكره من البلاغة والحكمة التي تتصف بها أحاديثه التي يدلي بها لوسائل الاعلام، في المناسبات، سواء العالمية منها أو المحلية، وإجاباته الشافية على أسئلة الاعلاميين، تلك الاجابات التي تصدر عن رجل سياسة ودبلوماسية وفكر نير واع وهي أعجبتني كلمة سموه التي ارتجلها أثناء استقباله أعضاء السلك الدبلوماسي في الصين يوم الجمعة 16 رجب 1421هـ الموافق 13 أكتوبر 2000م خلال زيارة سموه لبكين، حيث كانت الأحداث الدموية المؤلمة في فلسطين ضد اخواننا هناك، قائمة على قدم وساق، على أيدي اليهود الغاصبين.
من منطلق عروبة سموه ومبدأ أن المسلمين كالجسد الواحد، كان احساسه - يحفظه الله - ومشاعره مع الاشقاء الفلسطينيين فتحدث عن القضية، متأثراً لما يحدث، متألما لما يجري ظلما وعدوانا ولكنه ليس حديث العاطفة فحسب، بل حديث العقل والمنطق السليم والذكي الناضج والدبلوماسية الواعية، فقال سموه:
بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على نبي الأمة عليه الصلاة والسلام
أيها الاخوة الزملاء والأشقاء مجموعة عيون العرب في بلد عريق.. انكم تمثلون العرب بأجمعهم.. إنكم أيها الاخوة في أي مكان تكونون وشاهدتهم وناقشتهم في كل بلد أزوره وجدت أن السفراء أكثر ملاءمة وأكثر تصميما على وحدة العرب وعلى توحيد هدفهم وامكاناتهم وأنهم فعلا يؤدون واجبهم خير أداء، وهذا إن دل على شيء يدل على الاصالة في نفوس الجميع. إن ما حدث أمس الماضي وقبل يومين لا يستنكر ولا يستكثر على أرعن لا يقدر حقوق الانسان ولا يقدر مصالحه هو أنه في اختناق في أرض كقبضة اليد يريد الانطلاق يريد التوسع في المصالح التجارية يريد علاقات تتميز مع جيرانه لكن العقل مفقود عن قيادته.
مصلحة اليهود أن ينهوا القضية مع اخواننا الفلسطينيين ويعيدوا الأرض السليبة والقدس الشريف وتجري الأمور على أحسن ما يرام.. عندها قد يجدون من العرب الأوفياء والمسلمين عامة تناسي المآسي الماضية ولكن بكل أسف (الطبع يغلب التطبع) لذلك نحن بالله سبحانه وتعالى منتصرون.
ونحن ثابتون على الحق لا نتزعزع بأي شكل من الاشكال ولا نستفز في نفس الوقت إنهم يحاولون في الظروف الدولية أو الظروف المحلية ويعملون ما يعملون، طبعا يجب على اخواننا الفلسطينيين أن يتقيدوا بالنظام ويتقيدوا بعدم العمل البسيط الذي يحدث عملا أكبر ولا يعطوا للذرائع أي شيء.. سدوا الذريعة فعلا عن عدو متربص، ولكن الذي حصل من الاخوان الفلسطينيين لا يساوي العمل السيئ الذي عملوه اليهود في اخواننا الفلسطينيين، إنما مع وحدة الهدف ووحدة المقصد ووحدة المبادئ والمستقبل تأكدوا كل التأكيد انهم فاشلون.
فالفلسطينيون أخذوا على هذا الشيء، الدم عندهم في سبيل الله ثم الوطن سهل جداً، فلذلك يجب ان نثبت ثباتا ولا نطلب القوة والنصر إلا من الله سبحانه وتعالى.
الرجوع الى الله سبحانه وتعالى هو الاساس والهدف ثم الرجوع الى وطنيتنا وعروبتنا وأصالتنا ولا تكون هذه الأمور من العدو إلا إذا أحس أن هناك تفرقة عربية ولكنه سيصطدم بقوة العرب ومكانةالعرب وأصالة العرب في إسلاميتهم وفي وطنيتهم ووحدتهم وعروبتهم، وكل ما نتمنى من الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً لقادتنا ولشعوبنا وأنا لا نستفز بشيء يخسرنا كل الأمور.. لكن يجب أن نخطط وندرس ونعرف كيف نضع القدم كيف نتقدم وكيف نقف حتى العدو ينحاز وأصدقاء العدو يجدون أنفسهم أمام التصميم العربي والوحدة العربية.. ولدينا من المصالح الكبيرة بالعالم كله غربه وشرقه ما يجعلنا دائما أنوفنا مرتفعة ومصالح يخدموها لكن يخدموها عن طريق علمي ايجابي عقلاني.
وللعرب أصدقاء من اليهود في بلاد العالم كله يقفون ضد إسرائيل لأنهم يعرفون من عقلانيتهم أن إسرائيل لن تعيش في هذه الحالة التي هي فيها.. لن تعيش إلا إذا قام العربي الفلسطيني بقدرته وكماله وايجابيته وقوته ودولته عندئذ تتعايش إسرائيل مع الفلسطينيين.. فالصبر محمود والعجلة غير واردة لكن لا يكون من الصبر خذلان ولا يكون من العجلة تهور.
دائما لا بد أن نكون ايجابيين في تصرفاتنا في كل أمورنا وكل وحدتنا وأن نتناسى ما بيننا الحقيقة وأن نكثر من الألفة والتزاور والمشاركة المالية ونحيي جميع المشروعات الحيوية التي تربط العربي بالعربي لأن السياسة لا تربط، الذي يربط هو المال والاقتصاد والثقافة هي التي تربط الناس بعضهم ببعض اكثر من أي سياسات كانت.
هذه الحقيقة ملخص لما وجدته في نفسي الآن والأمل ان يتم اجتماع ايجابي يوقف الامور عند حدها وتعود المباحثات الفعلية الحقيقية التي أساسها ومحورها القدس الشريف، يعود إلى أهله ولا يمكن يقبل غير هذا شيء وتعود دولة فلسطين كما الله سبحانه وتعالى وضع لها وغير هذا لا يمكن نقبل لا من بعيد ولا من قريب.
واستطرد سموه قائلا: «العيب ليس بمقابلة العدو والنقاش معه، العيب في ترك العدو يفعل ما يريد ويعمل ما يريد.. أنا من الأشخاص الذين ضد أن الانسان يقول هذا عدو ولا أتقابل أنا وإياه.. لا.. أتقابل أنا وإياه على مائدة مستديرة وأقول له كل ما عندي ويقول لي كل ما عنده ونقف عند حد معين حتى أبرز حقيقته ومكاني أمام العالم».
(جريدة الجزيرة 17/7/1421هـ)
حزم وعزم وصلابة
بقدر ما يتمتع الأمير سلطان باللطف والابتسامة واللباقة، إلا أنه حازم في وقت الحزم والشدة، فهو لا يرضى بأن يُنتهك حق، أو يظلم إنسان، ولا يقبل أن يتهاون صاحب مسؤولية بمسؤوليته، أو يخل بنزاهته أو أمانته في أدائها.
ورغم حزمه وصلابته إلا انه لا يحمل في قلبه ضغينة على أحد، فغضبه للحق ليس إلا، ومن أمثلة حزم سموه ساعة الحزم، انه كان هناك خلاف على القيادة العسكرية عند بداية اندلاع أزمة الخليج، بين القيادات السعودية في القوات المسلحة، وليس ذلك حبا في القيادة، وإنما حبا في الوطن ومحاولة من كل منهم تقديم كل ما يستطيع فداء لأرضه، وكان المرشح الأول للقيادة هو صاحب السمو الملكي الأمير الفريق ركن خالد بن سلطان قائد قوات الدفاع الجوي الملكي في ذلك الوقت، إلا أن بعض القادة العسكريين يرون أن صلاحياته يجب أن تقتصر على الامور التكتيكية، بينما كان يريد صلاحيات أوسع من ذلك، وكل منهم ينطلق في آرائه من حب الوطن والاجتهاد في بذل كل جهد لحمايته والذود عنه، عند ذلك استدعاهم الأمير سلطان جميعا في السابع والعشرين من نوفمبر في مركز عمليات القوات الجوية، وحضر الاجتماع ما يقرب من 24 قائداً.
يقول الأمير خالد بن سلطان واصفا ذلك الاجتماع وما أبداه الأمير سلطان من حزم وصلابة في وقت يستدعي ذلك: «بدأ الاجتماع بتقرير عن القوات الجوية، تلته مناقشات بين القادة، ومن عادة الأمير سلطان ان يتكلم والابتسامة على وجهه، لكنه هذه المرة ظل عابساً وهو يتحدث عن الاخطار المحدقة التي تتعرض لها المملكة والتي لم يسبق أن تعرضت لمثلها قط، ثم تفجرت كلماته تقطر غيظا وهو يجول ببصره من قائد إلى آخر: (تتنازعون أمركم بينكم وأمن البلاد في خطر! هذا أمر لا يمكن احتماله. أريد القوات البرية والجوية والبحرية وقوات الدفاع الجوي، كل القوات تحت قيادة واحدة، وإذا ارتأيتم أن خالداً لا يصلح للقيام بهذه المهمة فأبعدوه، لا يهمني انه ابني، فكلكم أبنائي ولن أتحيز لأحد منكم في خلافاتكم، لا بد أن تبتروا هذه المسألة الآن، وأريدكم ان تعلموا جميعا علم اليقين أنني لن أدع البلاد تتعرض للخطر بسبب خلافاتكم، من منكم يستطيع أن يتولى القيادة؟ من يأنس في نفسه القدرة على تولي هذه القيادة فليتكلم وسأقف الى جانبه حتى النهاية وأمنحه الصلاحيات الكاملة، وإذا لم يتقدم منكم أحد فليُمنح خالد ما يحتاج إليه من سلطات).
ومضى الأمير سلطان في حديثه على هذا المنوال نصف ساعة، ظل يتحدث في لهجة قيادية صارمة، صرامة لم أعهده يتحدث بها من قبل، على كثرة ما شهدت له من مواقف مماثلة، كان حقاً قائد القادة. وكان لموقفه الحاسم وقراره الحازم الذي لم تؤثر فيه مشاعر الأبوة، وقع كبير وأثر بالغ في نفوس كل القادة».
|