يبقى الخطاب الجماهيري العربي مخنوقاً بإطار حماسي مفتعل يسعى البعض الى توظيفه لمآرب حزبية وانتخابية برلمانية، وهذا الخطاب المفتعل الذي لا يتجاوز الصراخ «بالروح بالدم» لايمكن ان يقدم حلاً او يغير واقعاً.
ان هذا الخطاب الذي هاج وماج منذ حرب 67 فقد مصداقيته عند العقلاء لأنه يرتكز على تجاهل الحقائق ويخلف لنا فكراً معاقاً يعتمد على المسكنات والمهيجات في الوقت ذاته.
انني لا اجزم بسهولة صياغة خطاب عروبي فالمسألة ذات جذور لايمكن تجاهلها وفي نفس الوقت لايمكن الاعتماد عليها في استمداد فكر يزن الاحداث بمنظور واقعي ولهذا فكثير من الخطوط متقاطعة في طبيعة هذه القضية ولربما كان اقتصار هذا الخطاب المتأزم على القومية العربية سبباً مباشراً في فتور مضامين ذلك الخطاب في الوقت الذي تغلي فيه ساحات المظاهرات بعباراته التي تقفز على كل الحقائق لتصل مباشرة الى «الروح والدم» والفداء بكل شيء. ولاشك ان حصر هذا الخطاب بالقومية العربية وابعاده عن التوجه الاسلامي لم يأت صدفة او بغير قصد انما جاء ليساير رغبات معينة تستغل كما اسلفت لأغراض انتخابية برلمانية من خلال استغلال تلك التراكمات والضغوط التي تحرك الشارع العربي في مظاهرات لا طائل منها سوى ما شوهد من تخريب وعنف لا يمكن ان يقدم اي حل او مساعدة لقضايا باتت في امس الحاجة للعقول التي تفكر وتدبر دونما تصل الى مجرد شعارات الفداء بالروح والدم تلك العبارة التي لا تتجاوز الحنجرة.لقد شاهدنا على الشاشات عدداً من الخطابات التي ينتشي معها الفرد ثم لا تلبث تلك النشوة أن يعتريها الفتور والتلاشي عند اول حلقة تفكير بالواقع وربما ان من الملاحظ ان معظم تلك المسيرات الشعبية كانت تسير خلف زعامات برلمانية وحزبية وظفت معظم هذه الاحداث التي تمر بها الامة لصالح مشاريعها الانتخابية وهو ما يمثل قمة الانانية والمتاجرة بقضايا الامة في مشهد مؤلم من الاستغلالية لبساطة الشارع العربي المتمثل بتلك الطبقات الاجتماعية البسيطة التي عادة ماتراها مندفعة خلف شعارات «الروح والدم» وربما ان ذلك الاندفاع ناتج عن ضغوط الحياة المعيشية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها تلك الطبقة الكادحة.
ولست اعني من ذلك ان نكون بعيدين عن طرح قضايانا مروراً بالشارع ولكن لماذا نتجاهل الوسائل الصحيحة والناجعة في توظيف هذا الحماس الهادر والتعاطف المتقد في اوساط الجماهير بما يفعل بشكل ملموس الدعم الحقيقي لقضايانا.. فعلى سبيل المثال على كثرة اولئك المنظرين والمشعلين لتلك المسيرات لم اسمع ان واحدا منهم قد دعا الجماهير الى التبرع بدولار واحد او اقل لصالح تلك القضية التي تموج لأجلها المظاهرات التي اصبحت في الآونة الاخيرة المشهد المتكرر في الشوارع العربية والاسلامية وما تخلفه في بعض الاحيان من اعمال تخريبية تضع اكثر من علامة استفهام حولها.. كانت العديد من المظاهرات ذات المسيرات الحاشدة تندد بما يتعرض له الشعب الفلسطيني من هجمات الابادة الصهيونية لكننا لم نشاهد اي تبرع من تلك الحشود الجماهيرية الزاحفة.. ومكبرات الصوت تقتل وتعربد بالصهاينة وبعد لحظات تذوب تلك الجموع الغفيرة وتطوي اللافتات وتخمد مكبرات الصوت ولكن هجمات العدو على الاخوة في فلسطين في تزايد.. إذن ما الفائدة؟
«بالروح.. بالدم» شعار اصبح دليلاً على ما يتمتع به العرب من قدرة مذهلة على المبالغة والتهويل على طريقة «خذوهم بالصوت» مع ان هذه الطريقة «الببغاوية» هزمت مراراً وتكراراً، وهي نابعة من سكيولوجية الشارع العربي ونفسيته التي يحللها الدكتور شاكر النابلسي بكتابه «الشارع العربي» والتي تتضمن نتائج مفزعة لذلك التحليل والتي يقول من خلالها ان الشارع العربي كيان هلامي غير محدد المعالم ويتسم بالشعارات الرنانة الخالية من اي محتوى واقعي وانه احادي في توجهه ويخدع ذاته بدلاً من ان يواجهها فهو شارع منقسم على نفسه ويعاني من فراغ علمي رهيب وتسيطر عليه الخرافة والتوتر والقهر والنفاق والزيف و الخوف والعنف والفردية والاحباط والجهل والانقياد الاعمى و عدم الاستمرار في تبني المطالب والاستسلام للعواطف والتعالي الذاتي.وهذا ليس من باب جلد الذات بقدر ما هو احساس بأن الشارع العربي لا يتنفس بالطريقة السليمة ولا يوظف ادواته الوطنية بشكل يتناسب وحجم المخاطر التي يتعرض لها بل انه يفقد الكثير من الادوات التي يمكن ان تساند مواقفه وتمنح اجندته المليئة بالمشاكل شيئاً من التحرك لعل شيئاً من المأمول ان يتحسن في ظل المتغيرات المتلاحقة التي يشهدها العالم والتي لم تأت من فراغ بل من تخطيط مسبق لم يواكبه تفكير وتخطيط عربي مواجه. ولعل الخلافات والتناحرات العربية العربية اشغلت العقل العربي عن مواكبة التطورات ولم يكن الشارع العربي بعيداً عن تلك التناحرات التي لا تزال للاسف في تزايد، وساهم الاعلام العربي باتجاهاته المختلفة في تأجيج تلك التناحرات من خلال اتاحة الفرصة لساسة الصراخ الذين للاسف تتم انتقائيتهم في كثير من البرامج لأهداف الاثارة لا اكثر وهم بلا شك امتداد لفلسفة الشارع الذي يهيج فجأة ويخمد فجأة.ان الحالة المستديمة في حياة الشارع العربي لا يمكن ان تكون نتاجاً لعامل او اثنين بل هي شبكة واسعة من العوامل التي من الصعب تذليلها لكنها ليست مستحيلة متى ما توفرت روح الاتفاق والتعاون وتغليب المصالح الوطنية العربية والاسلامية على المصالح التي لا تصب الا في قنوات فردية.
|