إذا كان طلب العلم فضيلة، يرتفع بها مقام الإنسان، وتسمو بها روحه، ويستقيم فكره، فإنَّ طلب الوهم رذيلةٌ تهوي بالإنسان إلى أسفل سافلين.
هل في الدنيا من يطلب الوهم؟!
ربما يتردَّد هذا السؤال على الألسنة للاستفهام والتعجُّب، أو للنفي وعدم التصديق، لأن العقل الواعي لا يقبل مثل هذا المسلك الذي لا يليق بمن له عقلٌ يفكر، أو قلبٌ يحسُّ، «طَلَبُ الوهم»؟، ربما كانت فكرةً خطرت بالذهن ليس لها من واقع البشر نصيب، وكيف يرضى إنسانٌ مهما كان اتجاهه وتفكيره أنْ يطلب الوهم؟، ولماذا يطلبه؟ والحقيقة أنَّ من البشر مَنْ يطلب الوهم، ويجدُّ في طلبه، ويحرص عليه، ويتباهى بذلك، ويظنُّ أنَّه على شيء، وأنَّ ما يطلبه من الوهم هو العلم والمعرفة وإذا كان الوَهْم يعني الظنَّ المخالف لليقين، والغَلَط الذي يظنه صاحبه صواباً، والسَّهْو، والتخيُّل لما ليس واقعاً، وإغفال أمرٍ سهواً أو إهمالاً له فإنَّه بهذه المعاني، موجودٌ بصورةٍ قويَّة في حياة كثيرٍ من النَّاس الذين يتسابقون في «طلب الوهم»، ويعدّونه فضيلةً، ويرونه سِمَةً من سماتِ الإنسان «المتحضِّر»، ويسمَّونه علماً وثقافةً ووعياً.
كيف ذلك؟؟
كلُّ الذين يتجاوزون حدود «الحقِّ، ويسعون إلى أباطيل الأفكار التي تنتشر في العالم، ويتلقون من الثقافات ما فيه تمرُّد على القيم والمبادئ السليمة ويؤمنون بكسر حواجز الفضائل التي تحول بين الناس وبين السقوط الخلقي وينادون بقطع سياق التاريخ، وعدم الالتفات إلى ثوابتِ العقيدةِ والفكر ويميلون إلى الرَّفض لكل أصيلٍ بحجَّة محاربة التقليد، هؤلاء هم طُلاَّب الوهم الذي نتحدَّث عنه، وهم جادُّون في طلبه، حريصون كلَّ الحرص عليه، مخلصون كلَّ الإخلاص في الدعوة إليه، ومحاربة كلِّ من يعترض طريقهم مهما كانتْ حُجَّته دامغةً، ورأيه مصيباً، ومشكلة طلاَّب الوهم أنهم شديدو التعصُّب لوهمهم لأنهم ممَّن يرون السيِّئَ حسناً، والحَسَنَ سيِّئاً، ولأنهم - مع سوء ما هم عليه - يحسبون أنهم يحسون صُنعاً، وهذه معضلةٌ كبيرة تعترض طريق الناصحين لهم، والحريصين على انتشالهم من وهمهم الذي يطلبون.
وهنالك نوعٌ آخر من طلب الوهم، ألا وهو وهم إرادة الخير والإصلاح عند فئةٍ من الناس، هم فئة المتنطِّعين المُغالين الذين ينظرون إلى الحياة من ثُقْب إبرة فما يرون من الحقيقة إلا بمقدار ذلك الثُّقْب الذي ينظرون إلى الحياة من خلاله ومع ذلك، فهم يرون أنَّ الحقَّ ما يرون، وأن الخير كُلَّه محصورٌ فيما يؤمنون به، وأنَّ ما عدا ذلك مخالفٌ للحق مهما كان صواب رأي أصحابه، ومهما كانت موافقتهم للحق، وطُلاَّب هذا الوهم يشبهون الآخرين من طلاَّب الوهم الذين يتفلَّتون من القيم والثوابت، من حيث التعصُّب لما هم عليه من الوهم، والاحتقار لما عداه، وإعلان روح العداوة والبغضاء لكلِّ من يحاول بيانَ حالهم، وكشف جوانب الوهم الذي يسعون سعياً حثيثاً في طلبه، وينادون إليه. وهنا تصبح قضيَّة «طلب الوهم» من أخطر القضايا التي تتعرَّض لها البشرية لأنها قائمة على «الوهم»، والوَهْم لا يسمح لأصحابه بالتفكير السليم، ولا يتيح لهم الرؤية السديدة إلى الأمور، ولا يفتح أذهانهم لاستيعاب الآراء الصائبة التي يوجِّهها إليهم أهل «العلم»، وهنا يصبح «العلم» عدوَّاً لدوداً لطلاَّب الوهم لأنَّه يكشف وهمهم، ويُزيل آثاره السيِّئة من عقولهم، لو أحسنوا النظر، وصدقوا في الاستماع إلى ما يقوله العلم الصحيح.
«طلب الوهم»، هو الذي يجعل العالم يعيش بين مشكلتين: مشكلةِ طلاب وَهْم الانفلات من القيم والمبادئ، ومشكلةِ طلاَّب التنطُّع والانغلاق وضيق الأفق في النظر إلى معاني القيم والمبادئ.
والمنقذ للجميع أن تكون هنالك خُطَط جادَّة لنشر العلم الصحيح القائم على منهج الله الحق في الحياة. فإنه هو العلاج الناجع الذي يداوي عقول «طلاَّب الوهم» من الفئتين.
إشارة
تفنى الجيوش وتنتهي آثارها
وتظلُّ قوَّة ربِّنا الوهَّاب
|
|